قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ . . . } خبر مقدَّم ، و " مُنَافقُونَ " مبتدأ ، و " مِنَ الأعْرابِ " لبيان الجنسِ . " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " يجوزُ أن يكون نسقاً على " مَنْ " المجرورة ب " مِنْ " ، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ ، وهو " مُنافقُونَ " بهما ، كأنَّه قيل : المنافقون من قوم حولكم ، ومن أهل المدينة ، وعلى هذا هو من عطف المفردات ، إذ عطفت خبراً على خبر ، وعلى هذا ، فيكون قوله : " مَرَدُوا " مستأنفاً لا محلَّ له . ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله : " مُنافقُونَ " ويكونُ قوله " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " خبراً مقدما ، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع " مِنْ " التَّبعيضية ، وقد مرَّ تحريره ، نحو : " مِنَّ ظعن ، ومِنَّا أقامَ " والتقدير : ومن أهلِ المدينةِ قومٌ ، أو أناسٌ مرَدُوا ، وعلى هذا فهو من عطف الجمل .
ويجوز أن يكون " مَرَدُوا " على الوجه الأوَّلِ صفةً ل " مُنَافِقُون " وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله : " ومِنْ أهل المدينةِ " ، والتقدير : وممَّن حولكم ، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون .
قال ذلك الزجاجُ ، وتبعه الزمخشريُّ ، وأبو البقاء ، واستبعده أبو حيَّان ، للفصل بين الصِّفة وموصوفها .
قال : " فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ ، وفي القصر العاقل " . يعني ففصلت بين " زيد " ، و " العاقل " بقولك : " وفي القصر " . وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني ، وإقامة صفته مقامه بقوله : [ الوافر ]
أنَا ابْنُ جَلاَ . . . *** . . . {[18081]}
قال أبُو حيَّان{[18082]} : " إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع " مِنْ " مُطَّردٌ ؛ وقوله : [ الوافر ]
أنَا ابْنُ جَلاَ . . . *** . . . {[18083]}
يَرْمِي بِكَفِّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ{[18084]} *** . . .
والبيت المشار إليه ، هو قوله : [ الوافر ]
أنَا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنَايَا *** مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي{[18085]}
وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات :
أحدها : ما تقدم . والآخر : أنَّ هذه الجملة محكيّة ؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ ، فإنَّ " جَلاَ " فيه ضمير فاعل ، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا : شَابَ قَرْنَاهَا ، وذَرَّى حَبّاً{[18086]} ، وقوله : [ الرجز ]
نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ *** ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ{[18087]}
والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر : أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير ، وإنَّما لم يُنوَّن ؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك ، فلو سُمِّي ب " ضرب ، وقتل " منعهما ، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة ، نحو : جَمَل ، وجَبَل{[18088]} . والمراد بأهل المدينةِ : الأوس والخزرج . و " مَرَدُوا " أي : مَهَرُوا ، وتمرَّنُوا ، وثبتوا على النفاق .
وقال ابن إسحاق : لجوُّا فيه وأبوا غيره . وقال ابنُ زيدٍ : أقاموا عليه ولم يتوبوا{[18089]} . وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ ، عند قوله : { شَيْطَاناً مَّرِيداً } [ النساء : 117 ] .
قوله : " لا تَعْلمُهُم " هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ل " مُنَافِقُون " ، ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه ؛ فيتعدَّى لاثنين ، أي : لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين ؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب ، لا يطلع عليه . وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد ، قاله أبُو البقاءِ . وأمَّا " نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ " فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها ، لما تقدَّم في الأنفال ، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى ، وهو محذُورٌ لما تقدَّم . قوله : " سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ " تقدَّم الكلامُ في نصب { مَرَّةٍ } [ التوبة : 13 ] ، وأنَّه من وجهين ، إمَّا المصدرية ، وإمَّا الظرفية ، فكذلك هذا ، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد ، وعليه الأكثر ، واختلفُوا في تفسيرها ، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية ، بل يُراد بها التَّكثيرُ ، كقوله تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] ، أي : كرَّاتٍ ، بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] ، أي : مزدجراً ، وهو كليلٌ ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات ، ومثله " لبَّيْكَ ، وسعْديكَ ، وحنَانيْكَ " .
وروى عياشٌ{[18090]} عن أبي عمرو " سنُعذِّبْهُم " بسكون الباءِ ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه ، وإن كان باب " ينْصُركُم " أحسن تَسْكِيناً ، لكون الرَّاءِ حرف تكرار ؛ فكأنه توالى ضمَّتان ، بخلاف غيره ، وقد تقدَّم تحريره .
وقال أبُو حيَّان : وفي مصحف أنس{[18091]} " سيُعذِّبهُم " بالياءِ ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ ، فكيف يقال هذا ؟ !
وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السُّديُّ والكلبيُّ : قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال : " اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ . . . " فأخرج من المسجد ناساً ، وفضحهم ، فهذا هو العذابُ الأولُ .
والثاني : عذاب القبر{[18092]} . وقال مجاهدٌ : الأولُ القتل والسبي ، والثاني عذاب القبر{[18093]} ، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين{[18094]} . وقال قتادةُ : بالدبيلة في الدُّنيا ، وعذاب القبر{[18095]} . وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا ، والأخرى عذاب القبر{[18096]} . وعن ابن عبَّاسٍ : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر{[18097]} . وقال ابنُ إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ، ودخولهم فيه من غير حسبة ، ثم عذاب القبر{[18098]} . وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم ، وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، ثم عذاب القبر ، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي : عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ : الأولى أخذ الزكاة من أموالهم ، وعذاب القبر{[18099]} .