اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ} (101)

قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ . . . } خبر مقدَّم ، و " مُنَافقُونَ " مبتدأ ، و " مِنَ الأعْرابِ " لبيان الجنسِ . " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " يجوزُ أن يكون نسقاً على " مَنْ " المجرورة ب " مِنْ " ، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ ، وهو " مُنافقُونَ " بهما ، كأنَّه قيل : المنافقون من قوم حولكم ، ومن أهل المدينة ، وعلى هذا هو من عطف المفردات ، إذ عطفت خبراً على خبر ، وعلى هذا ، فيكون قوله : " مَرَدُوا " مستأنفاً لا محلَّ له . ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله : " مُنافقُونَ " ويكونُ قوله " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " خبراً مقدما ، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع " مِنْ " التَّبعيضية ، وقد مرَّ تحريره ، نحو : " مِنَّ ظعن ، ومِنَّا أقامَ " والتقدير : ومن أهلِ المدينةِ قومٌ ، أو أناسٌ مرَدُوا ، وعلى هذا فهو من عطف الجمل .

ويجوز أن يكون " مَرَدُوا " على الوجه الأوَّلِ صفةً ل " مُنَافِقُون " وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله : " ومِنْ أهل المدينةِ " ، والتقدير : وممَّن حولكم ، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون .

قال ذلك الزجاجُ ، وتبعه الزمخشريُّ ، وأبو البقاء ، واستبعده أبو حيَّان ، للفصل بين الصِّفة وموصوفها .

قال : " فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ ، وفي القصر العاقل " . يعني ففصلت بين " زيد " ، و " العاقل " بقولك : " وفي القصر " . وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني ، وإقامة صفته مقامه بقوله : [ الوافر ]

أنَا ابْنُ جَلاَ . . . *** . . . {[18081]}

قال أبُو حيَّان{[18082]} : " إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع " مِنْ " مُطَّردٌ ؛ وقوله : [ الوافر ]

أنَا ابْنُ جَلاَ . . . *** . . . {[18083]}

ضرورة ؛ كقوله : [ الرجز ]

يَرْمِي بِكَفِّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ{[18084]} *** . . .

والبيت المشار إليه ، هو قوله : [ الوافر ]

أنَا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنَايَا *** مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي{[18085]}

وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات :

أحدها : ما تقدم . والآخر : أنَّ هذه الجملة محكيّة ؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ ، فإنَّ " جَلاَ " فيه ضمير فاعل ، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا : شَابَ قَرْنَاهَا ، وذَرَّى حَبّاً{[18086]} ، وقوله : [ الرجز ]

نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ *** ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ{[18087]}

والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر : أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير ، وإنَّما لم يُنوَّن ؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك ، فلو سُمِّي ب " ضرب ، وقتل " منعهما ، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة ، نحو : جَمَل ، وجَبَل{[18088]} . والمراد بأهل المدينةِ : الأوس والخزرج . و " مَرَدُوا " أي : مَهَرُوا ، وتمرَّنُوا ، وثبتوا على النفاق .

وقال ابن إسحاق : لجوُّا فيه وأبوا غيره . وقال ابنُ زيدٍ : أقاموا عليه ولم يتوبوا{[18089]} . وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ ، عند قوله : { شَيْطَاناً مَّرِيداً } [ النساء : 117 ] .

قوله : " لا تَعْلمُهُم " هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ل " مُنَافِقُون " ، ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه ؛ فيتعدَّى لاثنين ، أي : لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين ؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب ، لا يطلع عليه . وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد ، قاله أبُو البقاءِ . وأمَّا " نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ " فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها ، لما تقدَّم في الأنفال ، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى ، وهو محذُورٌ لما تقدَّم . قوله : " سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ " تقدَّم الكلامُ في نصب { مَرَّةٍ } [ التوبة : 13 ] ، وأنَّه من وجهين ، إمَّا المصدرية ، وإمَّا الظرفية ، فكذلك هذا ، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد ، وعليه الأكثر ، واختلفُوا في تفسيرها ، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية ، بل يُراد بها التَّكثيرُ ، كقوله تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] ، أي : كرَّاتٍ ، بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] ، أي : مزدجراً ، وهو كليلٌ ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات ، ومثله " لبَّيْكَ ، وسعْديكَ ، وحنَانيْكَ " .

وروى عياشٌ{[18090]} عن أبي عمرو " سنُعذِّبْهُم " بسكون الباءِ ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه ، وإن كان باب " ينْصُركُم " أحسن تَسْكِيناً ، لكون الرَّاءِ حرف تكرار ؛ فكأنه توالى ضمَّتان ، بخلاف غيره ، وقد تقدَّم تحريره .

وقال أبُو حيَّان : وفي مصحف أنس{[18091]} " سيُعذِّبهُم " بالياءِ ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ ، فكيف يقال هذا ؟ !

فصل

وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السُّديُّ والكلبيُّ : قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال : " اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ . . . " فأخرج من المسجد ناساً ، وفضحهم ، فهذا هو العذابُ الأولُ .

والثاني : عذاب القبر{[18092]} . وقال مجاهدٌ : الأولُ القتل والسبي ، والثاني عذاب القبر{[18093]} ، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين{[18094]} . وقال قتادةُ : بالدبيلة في الدُّنيا ، وعذاب القبر{[18095]} . وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا ، والأخرى عذاب القبر{[18096]} . وعن ابن عبَّاسٍ : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر{[18097]} . وقال ابنُ إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ، ودخولهم فيه من غير حسبة ، ثم عذاب القبر{[18098]} . وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم ، وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، ثم عذاب القبر ، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي : عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ : الأولى أخذ الزكاة من أموالهم ، وعذاب القبر{[18099]} .


[18081]:قطعة من بيت وهو بتمامه: انا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني وهو لسحيم بن وثيل. ينظر: الكتاب 3/207، مجالس ثعلب 1/176، ابن يعيش 1/61، 3/59، 62، البحر 5/97، المغني 1/160، 334، العيني 4/346، التصريح 2/221، الهمع 1/30، الأشوني 3/334، الخزانة 1/255 الاشتقاق ص(224)، الأصمعيات ص (17)؛ جمهرة اللغة ص 495، 1044، الدرر 1/99، المفصل 3/62، الشعر والشعراء 2/647 المقاصد النحوية 4/356 أمالي ابن الحاجب ص (456) أوضح المسالك 4/127، شرح قطر الندى ص 86 المقرب 1/283، اللسان: ثنى، الدر المصون 3/499.
[18082]:ينظر: البحر المحيط 5/97.
[18083]:تقدم.
[18084]:تقدم.
[18085]:تقدم.
[18086]:البناء الذي يشترك فيه الأسماء والأفعال وذلك بأن يسمى بمثل ضرب وعلم وظرف فإنه منصرف معرفة كان أو نكرة لأنه يكون في الأسماء كثرته في الأفعال من غير غلبة فنظير ضرب في الأفعال من الأسماء جبل، وقلم، ونظير علم كتف ورجل ونظير ظرف عضد ويقظ وليس ذلك في أحدهما أغلب منه في الآخر فلم يكن الفعل أولى به فلم يكن سببا، ومذهب عيسى بن عمر هو أنه متى سمي بالفعل كان كونه على صيغة الفعل سببا فيجتمع مع العلمية فيمتنع من الصرف فلذلك يمتنع صرف قتل وخرج إذا سمي بهما لأن فيه وزن الفعل مع العلمية. ومذهب سيبويه والخليل وجمهور الناس أن المعتبر في وزن الفعل إما خصوصية وزيد لا يكون إلا من الفعل وإما أن تكون في أول الفعل زيادة كزيادة الفعل سواء في الأصل اسما أو فعلا فلا فرق بين أرنب وأخرج إذا سمي بهما في أنهما غير مصروفين ولا فرق بين جبل وقتل إذا سمي بهما في أنهما مصروفان وهذا هو الصحيح الذي يدل عليه ما نقله الثقات العرب الفصحاء وليس في البيت حجة عند سيبويه لاحتمال أن يكون سمي بالفعل وفيه ضمير فاعل ويكون جملة، والجمل تحكي إذا سمي بها نحو برق نحره وشاب قرناها أو يكون جملة غير مسمى بها في موضع الصفة لمحذوف والتقدير أنا ابن رجل جلا فلا يكون فيه على كلا الوجهين حجة أما الزمخشري فيقول إن جلا ليس علما وإنما هو فعل ماض مع ضميره صفة لموصوف محذوف. لكن يرد عليه أن الجملة إذا كانت صفة لمحذوف فشرط موصوفها أن يكون بعضا من متقدم مجرور بمن أو "في" ويراه ابن الحاجب ابن ذي جلا بالتنوين على حذف مضاف.
[18087]:البيت لرؤبة ينظر: ملحقات ديوانه (172)، شرح المفصل لابن يعيش 1/28، التصريح 1/117، الأشموني 1/132، المغني 2/626، الخزانة (1/270)، العيني 1/388، 1/270، الدر المصون 3/499.
[18088]:لا يخلو –يزيد- إما أن يكون منقولا من قولك: يزيد المال أو من قولك: المال يزيد، فإن كان من الأول فهو مفرد ووجب أن يعرب إعراب المفردات في باب منع الصرف ولم يفعل به ذلك ههنا فدل على أنه منقول من الثاني فيكون جملة والجملية إذا سمي بها وجب حكايتها والدليل على وجوب حكايتها أن كل اسم علم مركب حكمه بعد التسمية في الإعراب والبناء حكمه قبل التسمية ما لم يمنع مانع وهذا قبل التسمية جملة ليس لها إعراب باعتبار الجملية فوجب بقاؤها وإنما كانت الجمل لا إعراب لها باعتبار الجملية، لأن المقتضي للإعراب مفقود، وذلك ان المقتضي للإعراب اعتوار المعاني المختلفة على المفردات والجمل ليست كذلك، ووجه ثان وهو أن المسمى بالجملة المنقولة غرضه بقاء صورة الجملة فيها ولو أعربت الجملة خرجت عن صورتها. ووجه ثالث وهو أنه يتعذر إعرابها لأنها لو أعربت لم يخل إما أن يعرب الأول والثاني أو هما جميعا، وباطل إعراب الأول، لأنه في المعنى بمثابة الزاي من زيد، والإعراب لا يكون وسطا وباطل إعراب الثاني لأنه يؤدي إلى أن يكون الأول معربا مبنيا وباطل إعرابهما جميعا لأن إعرابا واحدا في وجه واحد لا يستقيم أن يكون لشيئين قال ابن يعيش وفي نسخ المفصل يزيد بالياء وصوابه تزيد بالتاء المعجمة بثنتين من فوقها وهو تزيد بن حلوان أبو قبيلة معروفة إليه تنسب البرود التزيدية.
[18089]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/456) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/486) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في "تفسيره" (2/323).
[18090]:ينظر: البحر المحيط 5/98، الدر المصو 3/499.
[18091]:ينظر: المحرر الوجيز 3/76، البحر المحيط 5/98، الدر المصون 3/499.
[18092]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/457) عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/486) من هذا الطريق وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم والطبراني في "الأوسط" وأبي الشيخ وابن مردويه وذكره البغوي في "تفسيره" (2/323) عن الكلبي والسدي.
[18093]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/456) وذكره البغوي (323).
[18094]:انظر المدر السابق.
[18095]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/323).
[18096]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/458) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/487) وعزاه إلى أبي الشيخ.
[18097]:ذكره الطبري في "تفسيره" (6/458) والبغوي (2/323).
[18098]:انظر المصدر السابق.
[18099]:أخرجه الطبري (6/458) عن الحسن والبغوي في "تفسيره" (2/323) والرازي (16/138).