اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

قوله تعالى : { التائبون } الآية .

لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم ، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات . وقال جماعةٌ : الآية الأولى مستقلة بنفسها ، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية .

قوله : " التائبون " فيه خمسةُ أوجه :

أحدها : أنَّهُ مبتدأ ، وخبره " العابدون " وما بعده أوصاف ، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك .

الثاني : أنَّ الخبر قوله " الآمرون " .

الثالث : أنَّ الخبر محذوفٌ ، أي : التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة ، أي من لم يجاهد غير معاندٍ ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ ، قال الزجاجُ : وهو حسن ، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين ، كقوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] ويؤيده قوله : { وَبَشِّرِ المؤمنين } ، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ . وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة ، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم التائبون ، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى : { مِنَ المؤمنين } ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ ، وابن مسعود ، والأعمش " التَّائبينَ " بالياءِ ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً ؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر ، وقد صرَّح الزمخشري ، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين .

الخامس : أنَّ " التَّائبُونَ " بدلٌ من الضمير المتصل في " يُقاتِلُونَ " .

ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل : التَّائبُون من كذا لله ، ولا العابدون لله لفهم ذلك ، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي ، مبالغةً في ذلك . ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف ، لمناسبتها لبعضها ، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي ، لتبايُن ما بينهما ، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ ، أو كفٍّ . وكذا " الحَافِظُونَ " عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ ، وهو ظاهرٌ بالتأمل ، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً ، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها .

وقيل : إنَّما دخلت الواوُ ؛ لأنها " واوُ " الثمانية ، كقولهم : { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] وقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو . قال بعض النَّحويين : هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ ، يقولون إذا عدُّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة . قال القرطبيُّ : " وهي لغة قريش " وقال أبو البقاءِ : " إنَّما دخلت " الواو " في الصفة الثامنة ، إيذاناً بأنَّ السبعة عندهم عدد تام ، ولذلك قالوا : سبع في ثمانية ، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها ، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق " . وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً ، لا تحقيقَ له .

فصل في تفسير هذه الصفات

قوله " التائبون " قال ابنُ عبَّاسٍ : التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ{[18169]} وقال الحسنُ : من الشِّرك والنفاق{[18170]} . وقيل : التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ : " الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية ، لجمعه بين الأمرين " وقال الأصوليُّون : التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل ، فالتخصيص تحكم . و " العَابِدُونَ " قال ابنُ عباسٍ " الذين يؤدُّون العبادة الواجبة عليهم " {[18171]} وقال غيره : المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ " هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء " {[18172]} وقال قتادةُ " قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم " الحامدون " الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء{[18173]} . قال عليه الصلاة والسلام : " أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ " {[18174]} .

" السائحون " قال ابنُ مسعودٍ : الصائمون{[18175]} . وقال ابن عباس " ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام " {[18176]} وقال عليه الصلاة والسلام : " سياحةُ أمتي الصيامُ " {[18177]} . " وعن الحسن " أنَّ هذا صوم الفرض " {[18178]} وقيل : هم الذين يديمون الصيام . قال سفيانُ بنُ عيينة " إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً ، لتركه اللذات كلها ، من المطعم والمشرب والنكاح " {[18179]} وقال عطاءٌ : " السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله " {[18180]} وهو قول مسلم . وقال عكرمةُ : " هم طلبة العلم ، ينتقلون من بلدٍ إلى بلدٍ " {[18181]} وقوله { الراكعون الساجدون } يعني : المُصلِّين . وقوله { الآمرون بالمعروف } بالإيمان { والناهون عَنِ المنكر } عن الشّرك . وقيل : المعروفُ : السنّةُ ، والمنكر : البدعة .

قوله : { والحافظون لِحُدُودِ الله } القائمون بأوامر الله . وقال الحسنُ " أهلُ الوفاءِ ببيعة الله " {[18182]} .


[18169]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/483) عن الحسن وذكره الرازي (16/161) عن ابن عباس.
[18170]:انظر الأثر السابق.
[18171]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/161).
[18172]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/483).
[18173]:أخرجه الطبري في "المصدر السابق" وذكره الرازي (16/161).
[18174]:أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (4483، 4484، 4373) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/503) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ وابن مردويه.
[18175]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/484) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/503) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبي الشيخ.
[18176]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/484) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/503) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
[18177]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (8/270) وله شاهد عن عائشة موقوفا أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/486).
[18178]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/161) عن الحسن.
[18179]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/330).
[18180]:انظر: المصدر السابق.
[18181]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/504) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (2/230).
[18182]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/330).