قوله : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } الآية .
لمَّا شرح أحوال غزوة تبوك ، وأحوال المتخلِّفين عنها ، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي } الآية . تاب الله : تجاوز وصفح ، ومعنى توبته على النبيِّ : مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلُّف ، فقال : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلُّفِ عنه .
وقيل : توبةُ الله عليهم استنقاذهم من شدَّةِ العسرةِ . وقيل : خلاصهم من نكايةِ العدوِّ وعبَّر عن ذلك بالتوبة - وإن خرج عن عرفها - لوجود معنى التَّوبة فيه ، وهو الرُّجُوع إلى الحالة الأولى . وقيل : افتتح الكلام به ؛ لأنَّه كان سبب توبتهم ، فذكره معهم ، كقوله تعالى : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] . وقيل : لا يبعدُ أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي ، إلاَّ أنَّه تعالى تاب عليهم ، وعفا عنهم ، لأجْلِ تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد ، ثم إنَّه تعالى ضمَّ ذكر الرسول إلى ذكرهم ، تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدِّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول - عليه الصلاة والسلام - إليهم في قبول التوبة .
قوله : " . . . اتبعوه " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ اتباعٌ حقيقي ، ويكون عليه الصلاة والسلام خرج أولاً ، وتبعه أصحابه . وأن يكون مجازاً ، أي : اتبعوا أمرهُ ونهيهُ . وساعةُ العُسْرة عبارةُ عن وقتِ الخروج إلى الغزوِ ، وليس المرادُ حقيقة السَّاعة ، بل كقولهم " يَوْم الكُلاَب " ، و : [ الطويل ]
. . . *** عَشِيَّة قَارعْنَا جُذَامَ وحمْيَرا{[18204]}
فاستعيرت " السَّاعة " لذلك ؛ كما استعير " الغداة " و " العَشيَّة " في قوله : [ الطويل ]
غَداةَ طفَتْ عَلماءِ بكرُ بنُ وَائِلٍ *** . . . {[18205]}
إذَا جَاءَ يَوْماً وارثي يبتَغِي الغِنَى *** . . . {[18206]}
في المراد بساعة العسرةِ قولان :
الأول : أنها غزوةُ تبوك ، والمرادُ منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّاً في ذلك السَّفرِ . والعسرة : تعذر الأمر وصعوبته . قال جابِر " حصلت عسرة الظهر ، وعسرة الماءِ ، وعسرة الزَّادِ " {[18207]} .
أمَّا عُسرةُ الظهرِ ؛ فقال الحسنُ : كان العشرةُ من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم{[18208]} .
وأمَّا عسرة الزَّادِ ، فربما مصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها ، حتَّى لا يبقى من التَّمرة إلاَّ النواة ، وكان معهم شيء من شعير مُسَوَّسٍ ، فكان أحدهم إذا وضع اللُّقْمَة في فيه أخذ أنفه من نتن اللُّقمةِ . وأمَّا عسرة الماءِ ، فقال عمرُ : خرجنا في قيظٍ شديدٍ ، وأصابنا فيه عطشٌ شديدٌ ؛ حتَّى إنَّ الرجُل لينحر بعيرهُ فيعصر فرثهُ ، ويشربهُ{[18209]} .
وهذه تسمى غزوة العسرة{[18210]} ، ومن خرج فيها فهو جيش العُسرةِ ، وجهزهم عثمان وغيره من الصَّحابة - رضي الله عنهم - .
والثاني : قال أبو مسلم " يجوزُ أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال ، والأوقات الشديدة على الرَّسُولِ ، وعلى المؤمنين ؛ فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها . وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن ، كقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } [ آل عمران : 152 ] الآية ، والمقصود منه وصف المهاجرين ، والأنصار بأنَّهُم اتَّبعُوا الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة ، وذلك يفيدُ نهاية المدح والتعظيم " .
قوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ } قرأ حمزة وحفص{[18211]} عن عاصم " يَزِيغُ " بالياءِ من تحت والبقاون بالتاء من فوق . فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكون اسمُ " كاد " ضمير الشَّأن و " قلوبُ " مرفوع ب " يزيغُ " ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها ، وأن يكونَ اسمها ضمير القوم ، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذكرُ " المهاجرين والأنصار " ، ولذلك قدَّرهُ أبو البقاءِ ، وابنُ عطيَّة : " من بعد مَا كَادَ القَوْمُ " . وقال أبو حيان{[18212]} - في هذه القراءة - " فيتعيَّن أن يكونَ في " كاد " ضميرُ الشَّأن ، وارتفاع " قُلوبُ " ب " يزيغُ " ، لامتناع أن يكون " قلوب " اسم " كاد " ، و " يزيغُ " في موضع الخبر ؛ لأنَّ النِّيةَ فيه التأخير ولا يجوزُ : من بعد ما كاد قلوب يزيغُ بالياء " قال شهابُ الدِّين{[18213]} : ولا يتعيَّن ما ذكر في هذه القراءة ، لما تقدَّم من أنَّهُ يجوزُ أن يكون اسمُ " كاد " ضميراً عائداً على الجمع أو القوم ، والجملة الفعليَّة خبرها ، ولا محذور يمنع ذلك من ذلك . وقوله : لامتناع أن يكون " قُلُوب " اسم " كَادَ " لزم أن يكون " يزيغُ " خبراً مقدماً ؛ فيلزمُ أن يرفع ضميراً عائداً على " قُلوبُ " ، ولو كان كذلك للزم تأنيثُ الفعل ؛ لأنَّهُ حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي ؛ لأنَّ جمع التَّكسير يجري مجرى المؤنث مجازاً . وأمَّا قراءة التَّاء من فوق ؛ فتحتمل أن يكون في " كَادَ " ضميرُ الشَّأن ، كما تقدَّم ، و " قلوبُ " مرفوع ب " تزيغُ " وأنَّثَ لتأنيث الجمع ، وأن يكون " قُلوب " اسمها ، و " تزيغُ " خبر مقدَّم ، ولا محذور في ذلك ؛ لأنَّ الفعل قد أنَّثَ .
وقال أبُو حيَّان{[18214]} : وعلى كُلِّ واحدٍ من هذه الأعرايب الثلاثة إشكال على ما تقرَّر في علم النَّحو مِنْ أنَّ خبر أفعالِ المقاربةِ لا يكون إلاَّ مضارعاً رافعاً ضمير اسمها ؛ فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير " عَسَى " من أفعال المقاربة ، ولا يكونُ سببياً ، وذلك بخلاف " كان " فإن خبرها يرفع الضمير والسبي لاسم " كان " ، فإذا قدَّرْنَا فيها ضمير الشَّأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبرِ ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم " كاد " ، بل ولا سبباً له ، وهذا يلزمُ في قراءة التَّاءِ أيضاً .
وأما توسط الخبر ؛ فهو مبنيٌّ على جوازِ مثل هذا التركيب في مثل : " كان يقُومُ زيد " ، وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع . وأمَّا الوجه الأخير ؛ فضعيف جداً ، من حيثُ أضمر في " كاد " ضميراً ، ليس له علىمن يعود إلاَّ بتوهُّم ومن حيثُ يكونُ خبر " كاد " رافعاً سببياً . قال شهابُ الدِّين{[18215]} : كيف يقولُ " والصَّحيحُ المنعُ " وهذا التركيب موجود في القرآن ، كقوله تعالى : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [ الأعراف : 137 ] { كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [ الجن : 4 ] ، وفي قول امرىء القيس : [ الطويل ]
وإنْ تَكُ سَاءَتْكَ مِنِّي خَليقَةٌ *** . . . {[18216]}
فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالة . وإنَّما اختلفوا في تقديره : هل من باب تقديم الخبر ، أم لا ؟ فمن منع ؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح ، والخبرُ الصريح متى كان كذلك ؛ امتنع تقديمهُ على المبتدأ ، لئلاَّ يلتبس بباب الفاعل ؛ فكذلك بعد نسخه ، ومن أجازَ فلأمن اللَّبْس . ثم قال أبُو حيَّان : " ويُخَلِّصُ من هذه الإشكالات اعتقادُ كون " كَادَ " زائدة ، ومعناها مراد ، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكُون مثل " كَانَ " إذا زيدتْ ، يُراد معناها ولا عمل لها ، ويؤيِّدُ هذا التأويل قراءةُ ابن مسعودٍ{[18217]} " مِنْ بعْدِ ما زَاغَتْ " بإسقاط " كاد " وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] مع تأثُّرها بالعامل وعملها فيما بعدها ؛ فأحرى أن يُدَّعَى زيادتها ، وهي ليست عاملةً ولا معمولةً " قال شهابُ الدِّين زيادتُها أباهُ الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفشُ وجعل منه { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] وتقدَّم الكلام [ البقرة : 205 ] على ذلك . وقرأ الأعمشُ{[18218]} ، والجحدريُّ " تُزيغ " بضم التاء ، وكأَّنه جعل " أزَاغَ " ، و " زَاغَ " بمعنى . وقرأ أبَيّ{[18219]} " كَادَتْ " بتاء التأنيث .
" كاد " عند بعضهم تفيد المقاربة ، وعند آخرين تفيدُ المقاربة مع عدم الوقوع و " الزيغ " الميل ، أي : من بعد ما كاد تميلُ قلوب فريق منهم ، أو بعضهم ، ولم يرد الميل عن الدِّين بل أراد الميل للتخلف ، والانصراف ؛ فهذه التوبةُ توبةٌ عن تلك المقاربة .
واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم ، فقيل : هَمَّ بعضهم عند تلك الشدَّة العظيمة أن يفارق الرسول ، لكنه صبر واحْتَسبَ ؛ فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لمَّا صبرُوا وندمُوا على ذلك الأمر اليسير . وقال آخرون : بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة ، فلمَّا نالتهم الشِّدة ، وقع ذلك في قلوبهم ، ومع ذلك تلافوا هذا اليسيرَ خوفاً من أن يكون معصية ؛ فلذلك قال تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } .
فإن قيل : ذكر التوبة في أوَّل الآية ، وفي آخرها ، فما فائدة التَّكرارِ ؟
أحدها : أنَّهُ تعالى ابتدأ بذكر التَّوبةِ قبل ذكرِ الذَّنبِ تَطْيباً لقلوبهم ثم لمَّا ذكر الذَّنبَ أردفه مرة أخرى بذكر التوبة ؛ تعظيماً لشأنهم .
وثانيها : إذا قيل : عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه ، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ ، قال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة " {[18220]} وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يريدُ ازداد عنهم رضا{[18221]} . قال ابنُ عبَّاسٍ : مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً{[18222]} . وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء .
وثالثها : أنه قال { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة } وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية ، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس . ثمَّ قال تعالى { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وهما صفتان لله تعالى ، ومعناهما متقارب ، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر ، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة .