اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (113)

قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } الآيات .

لمَّا بيَّن في أول السُّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين ، والمنافقين من جميع الوجوه ، بيَّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم ، وإن كانوا في غاية القُرْبِ من الإنسان كالأب والأم ، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم .

قال ابنُ عباسٍ : لمَّا فتح رسُول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة ، أتى قبر أمه آمنة ، فوقف عليه حتى حميت الشمسُ ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها ، فنزلت { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ }{[18183]} وعن أبي هريرة قال : " زَارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أمه فبكَى وأبْكَى من حولهُ ، فقال : " اسْتأذَنْتُ ربِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لها ؛ فَلمْ يُؤذَنْ لِي واسْتَأذَنتُهُ في أنْ أزُورَ قَبْرهَا فأذِنَ لِي ، فزُورُوا القُبُور فإنَّهَا تُذكرُ المَوْتَ " {[18184]} .

قال قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرنَّ لأبي ، كما استغفر إبراهيم لأبيه " فأنزل الله هذه الآية{[18185]} . وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال : " لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال : يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ " فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة : أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ : على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم " لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ " فأنزل الله هذه الآية ، وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }{[18186]} [ القصص : 56 ] . وفي رواية قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ " قُلْ : لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ " ، قال : لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ ، يقُولُونَ : إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ ؛ فنزل قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] الآية{[18187]} . قال الواحديُّ : " وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً ، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام " .

قال ابنُ الخطيب " وليس هذا بمُسْتَبعدٍ ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال : إنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، قال : فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان ؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " .

وفي رواية : فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ } إلى قوله { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] .

فصل

قال القرطبيُّ : " تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم ؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين ؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز ، فإن قيل : صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه : " اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ " {[18188]} فكيف الجمع بين الآية والخبر ؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء ، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال : كأنِّي أنظرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُول " ربِّ اغفرْ لِقوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ " وروى البخاريُّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمَّن قبله " .

قال القرطبيُّ : " لأَنَّهُ قاله ابتداء عن نفسه . وجواب ثان : أنَّ المراد بالاستغفار في الآية : الصّلاة . قال عطاءُ بن أبي رباح : الآية في النَّهْي عن الصَّلاةِ على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة .

جواب ثالث : أنَّ الاستغفارَ للأحياءِ جائز ؛ لأنَّهُ مرجو إيمانهم ، ويمكن تألفهم بالقول الجميل ، وترغيبهم في الدِّين بخلاف الأموات " .

قوله : { وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } كقوله : " أعطوا السائل ولو على فرس " وقد تقدَّم أنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة . وقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم } [ التوبة : 113 ] كالعلَّةِ للمنع من الاستغفار لهم .


[18183]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/489) عن عطية وذكره الرازي في "تفسيره" (16/165) عن ابن عباس.
[18184]:أخرجه مسلم 2/671 كتاب الجنائز باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (108-976).
[18185]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/331).
[18186]:أخرجه البخاري (8/162) كتاب التفسير: باب ما كان للنبي والذين آمنوا...... حديث (4675) ومسلم (1/54) كتاب الإيمان رقم (39) والبيهقي في "الدلائل" (2/343) والطبري في تفسيره" (6/488). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/505) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.
[18187]:انظر الحديث السابق.
[18188]:تقدم تخريجه.