اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } الآية .

قوله " وعَلى الثَّلاثةِ " يجوزُ أن ينسقَ على " النبيِّ ، أي : تاب على النبي ، وعلى الثلاثة ، وأن ينسقَ على الضَّمير في " عَليْهِمْ " أي : تاب عليهم ، وعلى الثلاثة ، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر .

وقرأ جمهورُ النَّاس " خُلِّفُوا " مبنيّاً للمفعول مشدداً ، من : خلَّفه يخلِّفه .

وقرأ أبُو{[18223]} مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم . وقرأ عكرمةُ ، وزر{[18224]} بنُ حبيشٍ ، وعمرُو بنُ عبيدٍ ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزوميّ ، ومعاذ للقارئ " خَلَفُوا " مبنيّاً للفاعل مخففاً من : " خَلَفَه " .

والمعنى : الذين خلفوا ، أي : فسدُوا ، مِنْ : خُلُوف الفمِ . ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة . وقرأ أبو العالية{[18225]} ، وأبو الجوزاء كذلك ، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين ، وعلي{[18226]} بنُ الحسينِ ، وابناه : زيدٌ ، ومحمد الباقرُ ، وابنه جعفر الصادقُ : " خَالفُوا " بألف ، أي : لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج .

قال الباقرُ " ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم " .

وقرأ الأعمش{[18227]} " وعلى الثَّلاثة المخلَّفين " . و " الظَّن " هنا بمعنى العلم ؛ كقوله : [ الطويل ]

فقُلْتُ لهُم : ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ *** سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ{[18228]}

وقوله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء ، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم . وقيل : هو على بابه ؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام وقف أمرهم على الوحي ، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً ، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك ، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم ، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة ، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة .

قوله : { أَن لاَّ مَلْجَأَ } " أنْ " هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين ، و " لا " وما في حيَّزها الخبرُ ، و{ مِنَ الله } خبرها ، ولا يجوزُ أن تتعلق ب " مَلْجَأ " ، ويكون " إلاَّ إليْهِ " الخبر لأنه كان يلزم إعرابه ؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً .

وقد قال بعضهم : إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ ، كقوله : [ الطويل ]

أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً *** . . . {[18229]}

وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ " {[18230]} برفع " يومٌ " وقد تقدم ذلك [ الأنفال : 48 ] .

قوله : " إلاَّ إليه " استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ ، أي : لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك : " لا إله إلاَّ الله " .

فصل

هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] .

واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل : ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك ، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً ؟ فيقولُ : بموضع كذا ، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف ، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه ، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه .

وقيل : لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - في قدر تحصيل الآلات ، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل ، فصح أن يقال : خلفهم الرسول .

وقيل : إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة . قال كعبُ بنُ مالكٍ ، وهو أحد الثلاثةِ : قول الله في حقنا { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ؛ يشير إلى قوله : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] .

فصل

هؤلاء الثلاثةُ هم : كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر ، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان ، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع .

وفي قصتهم قولان :

الأولُ : أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عليه الصلاة والسلام - ، قال الحسنُ : كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أمرك ؛ فاذهبي في سبيل الله ، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ، وكان للثاني أهلٌ فقال : يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمرك ؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل . والثالث : ما كان ذا مال ولا أهل فقال : ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلحقوا برسُول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله } [ التوبة : 106 ] .

والثاني - وهو قول الأكثرين - : أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - قال كعبٌ : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب حديثي ، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام : ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم ، وأتيته فقلتُ : إن كراعي ، وزادي كان حاضراً ، واحتبست بذنبي ، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، ثمَّ إنَّه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة ، وأمر بمباينتهم ، حتى أمر بذلك نساءهم ؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت : يا رسول الله لقد بكى ، حتَّى خفتُ على بصره ، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين } [ التوبة : 117 ] وقوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ } فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته ، وهو عند أمِّ سلمة فقال : اللهُ أكبرُ ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا " فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه ، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم ؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : " لا " فقلتُ : نصفه ، قال : " لا " ، قلت : فثلثه ، قال : " نعم " .

فصل

معنى : { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه : إعراض الرسول عنهم ، ومنع المؤمنين من مكالمتهم ، وأمر أزواجهم باعتزالهم ، وبقائهم على ذهه الحالة خمسين يوماً ، وقيل : أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم ، أي : ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ ، ومجانية الأولياء ، ونظر الناس إليهم بعين الإهانةِ ، و " ظَنُّوا " أي : استيقنوا " أن لا مَلْجَأ " لا مفزع من الله إلا إليه .

قال ابنُ الخطيبِ : يقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام : " أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك ، وأعوذُ بكَ مِنْكَ " .

قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } فيه وجوه :

أحدها : قال أهلُ السُّنَّةِ : المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى ، فقوله : " تَابَ عليْهِمْ " يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله : " لِيتُوبُوا " يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ ؛ فهو نظير قوله : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً } [ التوبة : 82 ] مع قوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ } [ النجم : 43 ] وقوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } [ الأنفال : 5 ] مع قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ } [ التوبة : 40 ] وقوله { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ } [ يونس : 22 ] مع قوله : { قُلْ سِيرُواْ } [ الأنعام : 11 ] .

وثانياً : تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل .

وثالثها : أصلُ التوبة الرُّجوع أي : تاب عليهم ؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك .

ورابعها : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا } أي : ليداوموا على التوبةِ ولا يراجعوا ما يبطلها .

وخامسها : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } لينتفعوا بالتوبة { إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم } .

واعلم أنَّ ذكر " الرَّحيم " عقب ذكر " التَّواب " يدلُّ على أنَّ قبول التوبةِ لمحض الرحمة والكرم ، لا لأجل الوجوب ، كما تقولُ المعتزلةُ ، وذلك يقوي أنَّهُ لا يجبُ عقلاً على الله قبول التوبة .


[18223]:ينظر: الكشاف 2/318، المحرر الوجيز 3/94، البحر المحيط 5/112، الدر المصون 3/511.
[18224]:ينظر: السابق.
[18225]:ينظر: الكشاف 2/318، البحر المحيط 5/112، الدر المصون 3/511.
[18226]:ينظر: السابق.
[18227]:ينظر: السابق.
[18228]:تقدم.
[18229]:صدر بيت لكثير عزة وعجزه: لنفس لقد طالبت غير منيل *** ... وهو في ديوانه (508) وروايته هكذا: أراني ولا كفران لله إنما *** أواخي من الأقوام كل بخيل ينظر: الخصائص 1/337 والمغني 2/394 واللسان (أوأ) والدر المصون 3/511.
[18230]:أخرجه عبد الرزاق (11450، 13899) والبيهقي (6/57-7/461) والطحاوي (1/280).