المسألة الثالثة : ما وجه تعلق قوله { نتربص به ريب المنون } بقوله { شاعر } ؟ نقول فيه وجهان : ( الأول ) أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء وتتقي ألسنتهم ، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون ، وقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره ، وإنما سبيلنا الصبر وتربص موته ( الثاني ) أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إن الحق دين الله ، وإن الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر وكتابي يتلى إلى قيام الساعة ، فقالوا ليس كذلك إنما هو شاعر ، والذي يذكره في حق آلهتنا شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهلاك فنتربص به ذلك .
المسألة الرابعة : ما معنى ريب المنون ؟ نقول قيل هو اسم للموت فعول من المن وهو القطع والموت قطوع ، ولهذا سمي بمنون ، وقيل المنون الدهر وريبه حوادثه ، وعلى هذا قولهم { نتربص } يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعرا فصروف الزمان ربما تضعف ذهنه وتورث وهنه فيتبين لكل فساد أمره وكساد شعره .
نتربص به حوادث الأيام ؛ فإنّ مِثْل هذا لا يدوم ، وسيموت كما مات مِنْ قبْله كُهّانٌ وشعراء .
ويقال : قالوا : إنَّ أباه مات شابّاً ، ورَجَوْا أَنْ يموت كما مات أبوه ، فقال تعالى : { قُل تَرَبَّصُواْ . . . } فإننا منتظرون ، وجاء في التفسير أَنّ جميعَهم ماتوا . فلا ينبغي لأحدٍ أن يُؤمِّلَ موتَ أحدٍ . فَقَلْ مَن تكون هذه صَنعتُه إلاّ سَبَقَتْه المَنيَّةُ - دون أَنْ يُدْرِكَ ما يتمنّاه مِنْ الأمنيّة .
{ أَمْ يَقُولُونَ } أي بل أيقولون { شَاعِرٌ } أي هو شاعر { نَتَرَبَّصُ } أي ننتظر { بِهِ رَيْبَ المنون } أي الدهر ، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها ، ومنه حبل منين أي مقطوع ، والريب مصدر رابه إذا أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة ، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل ، والمراد بنزوله إهلاكه ، وتفسير المنون بالدهر مروى عن مجاهد . وعليه قول الشاعر
: «تربص بها ريب المنون » لعلها *** تطلق يوماً أو يموت حليلها
. أمن «المنون وريبة » يتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع
قيل : ظاهره ذلك ؛ وكذلك قول الأعشى
: أأن رأت رجلاً أعضى أضرّ به *** «ريب المنون » ودهر متبل خبل
ولهذا أنشده الجوهري شاهداً له ، وأخرج ابن جرير . وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشتكر بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفاً : المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه ، وقد يراد به المنية فيؤنث ، وقد روى ريبها ، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل ، وهو أيضاً من المنّ بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات ، ولذا قيل : المنية تقطع الأمنية ، وريب المنون عليه نزول المنية ، وجوز أن يكون بمعنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية ، روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار كما قال الضحاك تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير . والنابغة . والأعمشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت ، وقرأ زيد بن علي { يتربص } بالياء مبنياً للمفعول ، وقرئ { بِهِ رَيْبَ } بالرفع على النيابة .
وتارة { يَقُولُونَ } فيه : إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر ، والذي جاء به شعر ،
والله يقول : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }
{ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } أي : ننتظر به الموت{[881]} فسيبطل أمره ، [ ونستريح منه ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.