الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أَمۡ يَقُولُونَ شَاعِرٞ نَّتَرَبَّصُ بِهِۦ رَيۡبَ ٱلۡمَنُونِ} (30)

قوله تعالى : " أم يقولون شاعر " أي بل يقولون محمد شاعر . قال سيبويه : خوطب العباد بما جرى في كلامهم . قال أبو جعفر النحاس : وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح ، يريد سيبويه أن " أم " في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث ، كما قال{[14310]} :

أتهجر غانيةً أم تُلِم

فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال :

أمِ الحبل واهٍ بها مُنْجَذِم

فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث ، والنحويون يمثلونها ببل . " نتربص به ريب المنون " قال قتادة : قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان . قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر ، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء ، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه . وقال الأخفش : نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر ، كما تقول : قصدت زيدا وقصدت إلى زيد . والمنون : الموت في قول ابن عباس . قال أبو الغول الطهوي :

هم منعوا حِمَى الوَقَبَي بِضَرْبٍ *** يُؤَلِّفُ بينَ أشْتَاتِ المَنُونِ{[14311]}

أي المنايا ، يقول : إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة ، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة . وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : " ريب " في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور " ريب المنون " يعني حوادث الأمور ، وقال الشاعر{[14312]} :

تَرَبَّصْ بِهَا ريبَ المنونِ لعلَّها *** تُطَلَّقُ يوماً أو يموت حليلُها

وقال مجاهد : " ريب المنون " حوادث الدهر ، والمنون هو الدهر ، قال أبو ذؤيب :

أمن المنون وريبِه تتوجع *** والدهر ليس بِمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ

وقال الأعشى :

أأن رأت رَجُلاً أعشى أَضَرَّ به *** ريبُ المنونِ ودهرٌ مُتْبِلٌ خَبِل{[14313]}

قال الأصمعي : المنون والليل والنهار ، وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال . وعنه : أنه قيل للدهر منون ؛ لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية . أبو عبيدة : قيل للدهر منون ، لأنه مضعف ، من قولهم حبل منين أي ضعيف ، والمنين الغبار الضعيف . قال الفراء : والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا . الأصمعي : المنون واحد لا جماعة له . الأخفش : هو جماعة لا واحد له ، والمنون يذكر ويؤنث ، فمن ذكره جعله الدهر أو الموت ، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية .


[14310]:هو الأعشى.
[14311]:هو من بني نهشل واسمه علباء بن جوشن. والوقبي كجمزى ماء لبني مالك بن مازن مشهور بوقائع عديدة وهو على طريق المدينة من البصرة.
[14312]:الذي في نسخ الأصل: قال ابن عباس وليس بشيء، وفي سائر كتب التفسير قال الشاعر كما أثبتناه.
[14313]:يروى: ودهر مفند. وهي الرواية المشهورة. متبل مسقم أو يذهب بالأهل والولد. وخبل ككتف ملتو على أهله لا يرون فيه سررا.