مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (37)

قوله تعالى { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين }

فيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى : { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز ، وأن محمدا إنما يأتي به من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق ، ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام ، وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع ، ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى ، ولكنه وحي نازل عليه من عند الله ، ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله : { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله } وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند الله تعالى ، وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { وما كان هذا القرءان أن يفترى } فيه وجهان : الأول : أن قوله : { أن يفترى } في تقدير المصدر ، والمعنى : وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله ، كما تقول : ما كان هذا الكلام إلا كذبا . والثاني : أن يقال إن كلمة { أن } جاءت ههنا بمعنى اللام ، والتقدير : ما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله ، كقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } . { ما كان الله ليذر المؤمنين } . { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك ، فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ، أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله ، لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر ، والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر ، والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم : اختلق فلان هذا الحديث في الكذب ، فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل ، ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور :

الحجة الأولى : قوله : { ولكن تصديق الذي بين يديه } وتقرير هذه الحجة من وجوه : أحدها : أن محمدا عليه السلام كان رجلا أميا ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم ، وما كانت مكة بلدة العلماء ، وما كان فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنه عليه السلام أتى بهذا القرآن ، فكان هذا القرآن مشتملا على أقاصيص الأولين ، والقوم كانوا في غاية العداوة له ، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه ، ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي ، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه ، وعلى تقبيح صورته ، علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل ، مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما ، وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل الله تعالى .

الحجة الثانية : أن كتب الله المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام ، على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وإذا كان الأمر كذلك كان مجيء محمد عليه السلام تصديقا لما في تلك الكتب ، من البشارة بمجيئه صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه .

الحجة الثالثة : أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل ، ووقعت مطابقة لذلك الخبر ، كقوله تعالى : { الم غلبت الروم } الآية ، وكقوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } وكقوله : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة ، إنما حصل بالوحي من الله تعالى ، فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه ، فالوجهان الأولان : إخبار عن الغيوب الماضية . والوجه الثالث : إخبار عن الغيوب المستقبلة ، ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه .

النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : { وتفصيل كل شيء } .

واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه ؟ فقال بعضهم : إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة ، وهذا هو المراد من قوله : { تصديق الذي بين يديه } ومنهم من قال : إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة ، وإليه الإشارة بقوله : { وتفصيل كل شيء } وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما أن تكون دينية أو ليست دينية ، ولا شك أن القسم الأول أرفع حالا وأعظم شأنا وأكمل درجة من القسم الثاني . وأما العلوم الدينية ، فإما أن تكون علم العقائد والأديان ، وإما أن تكون علم الأعمال . أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . أما معرفة الله تعالى ، فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ، ومعرفة صفات إكرامه ، ومعرفة أفعاله ، ومعرفة أحكامه ، ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب ، بل لا يقرب منه شيء من المصنفات . وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه . ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن ، وإما أن يكون علما بتصفية الباطن أو رياضة القلوب . وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره ، كقوله :

{ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } وقوله : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة ، عقليها ونقليها ، اشتمالا يمتنع حصوله في سائر الكتب فكان ذلك معجزا ، وإليه الإشارة بقوله { وتفصيل الكتاب } .

أما قوله : { لا ريب فيه من رب العالمين } فتقريره : أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض ، وحيث خلى هذا الكتاب عنه ، علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله ، ونظيره قوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }