مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ أُكُلُهَا دَآئِمٞ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلنَّارُ} (35)

{ مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دآئم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة ، أتبعه بذكر ثواب المتقين وفي قوله : { مثل الجنة } أقوال : الأول : قال سيبويه : { مثل الجنة } مبتدأ وخبره محذوف والتقدير : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة . والثاني : قال الزجاج : مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا . والثالث : مثل الجنة مبتدأ وخبره تجري من تحتها الأنهار ، كما تقول صفة زيد اسم . والرابع : الخبر هو قوله : { أكلها دائم } لأنه الخارج عن العادة كأنه قال : { مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار } كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم .

المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث : أولها : تجري من تحتها الأنهار . وثانيها : أن أكلها دائم . والمعنى : أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها . أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة . وثالثها : أن ظلمها دائم أيضا ، والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى : { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة ، وعاقبة الكافرين النار . وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام .

واعلم أن قوله : { أكلها دائم } فيه مسائل ثلاث :

المسألة الأولى : أنه يدل على أن أكل الجنة لا تفنى كما يحكى عن جهم وأتباعه .

المسألة الثانية : أنه يدل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم ، كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه .

المسألة الثالثة : قال القاضي : هذه الآية تدل على أن الجنة لم تخلق بعد ، لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وأن ينقطع أكلها لقوله تعالى : { كل من عليها فان } . و{ كل شيء هالك إلا وجهه } لكن لا ينقطع أكلها لقوله تعالى : { أكلها دائم } فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة . ثم قال : فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جنات كثيرة يتمتع بها الملائكة ومن يعد حيا من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روى في ذلك ، إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة .

والجواب : أن دليلهم مركب من آيتين : أحدهما : قوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } والأخرى قوله : { أكلها دائم وظلها } فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط دليلهم ، فنحن نخصص أحد هذين العمومين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة ، وهو قوله تعالى : { وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } .