مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (75)

ثم قال تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون }

اعلم أنه تعالى أكد إبطال مذهب عبدة الأصنام بهذا المثال وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في تفسير هذا المثل قولان :

القول الأول : أن المراد أنا لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، وفرضنا حرا كريما غنيا كثير الإنفاق سرا وجهرا ، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة والبشرية ، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والأفضال ، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر البتة .

والقول الثاني : أن المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر ، فإنه من حيث إنه بقي محروما عن عبودية الله تعالى وعن طاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز ، والمراد بقوله : { ومن رزقناه منا رزقا حسنا } هو المؤمن فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله فبين تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى .

واعلم أن القول الأول أقرب ، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها إنما ورد في إثبات التوحيد ، وفي الرد على القائلين بالشرك فحمل هذه الآية على هذا المعنى أولى .

المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله : { عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } فقيل : المراد به الصنم لأنه عبد بدليل قوله : { إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا } وأما أنه مملوك ولا يقدر على شيء فظاهر ، والمراد بقوله : { ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا } عابد الصنم لأن الله تعالى رزقه المال وهو ينفق من ذلك المال على نفسه وعلى أتباعه سرا وجهرا .

إذا ثبت هذا فنقول : هما لا يستويان في بديهة العقل ، بل صريح العقل يشهد بأن ذلك القادر أكمل حالا وأفضل مرتبة من ذلك العاجز ، فهنا صريح العقل يشهد بأن عابد الصنم أفضل من ذلك الصنم فكيف يجوز الحكم بكونه مساويا لرب العالمين في العبودية .

والقول الثاني : أن المراد بقوله : { عبدا مملوكا } عبد معين ، وقيل : هو عبد لعثمان بن عفان ، وحملوا قوله : { ومن رزقناه منا رزقا حسنا } على عثمان خاصة .

والقول الثالث : أنه عام في كل عبد بهذه الصفة وفي كل حر بهذه الصفة ، وهذا القول هو الأظهر ، لأنه هو الموافق لما أراده الله تعالى في هذه الآية ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا .

فإن قالوا : ظاهر الآية يدل على أن عبدا من العبيد لا يقدر على شيء ، فلم قلتم : إن كل عبد كذلك ؟ فنقول : الذي يدل عليه وجهان : الأول : أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وكونه عبدا وصف مشعر بالذل والمقهورية . وقوله : { لا يقدر على شيء } حكم مذكور عقيبه . فهذا يقتضي أن العلة لعدم القدرة على شيء هو كونه عبدا ، وبهذا الطريق يثبت العموم . الثاني : أنه تعالى قال بعده : { ومن رزقناه منا رزقا حسنا } فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول وهو العبد بهذه الصفة وهو يرزقه رزقا ، فوجب أن لا يحصل هذا الوصف للعبد حتى يحصل الامتياز بين القسم الثاني وبين القسم الأول ، ولو ملك العبد لكان الله قد آتاه رزقا حسنا ، لأن الملك الحلال رزق حسن سواء كان قليلا أو كثيرا . فثبت بهذين الوجهين أن ظاهر الآية يقتضي أن العبد لا يقدر على شيء ولا يملك شيئا . ثم اختلفوا فروي عن ابن عباس وغيره التشدد في ذلك حتى قال : لا يملك الطلاق أيضا . وأكثر الفقهاء قالوا يملك الطلاق إنما لا يملك المال ولا ما له تعلق بالمال . واختلفوا في أن المالك إذا ملكه شيئا فهل يملكه أم لا ؟ وظاهر الآية ينفيه ، بقي في الآية سؤالات :

السؤال الأول : لم قال : { مملوكا لا يقدر على شيء } وكل عبد فهو مملوك وغير قادر على التصرف ؟

قلنا : أما ذكر المملوك فليحصل الامتياز بينه وبين الحر ، لأن الحر قد يقال : إنه عبد الله ، وأما قوله : { لا يقدر على شيء } قد يحصل الامتياز بينه وبين المكاتب وبين العبد المأذون ، لأنهما لا يقدران على التصرف .

السؤال الثاني : { من } في قوله : { ومن رزقناه } ما هي ؟

قلنا : الظاهر إنها موصوفة كأنه قيل : وحرا ورزقناه ليطابق عبدا ، ولا يمتنع أن تكون موصولة .

السؤال الثالث : لم قال : { يستوون } على الجمع ؟

قلنا : معناه هل يستوي الأحرار والعبيد . ثم قال : { الحمد لله } وفيه وجوه : قال ابن عباس : الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد . والثاني : المعنى أن كل الحمد لله ، وليس شيء من الحمد للأصنام ، لأنها لا نعمة لها على أحد . وقوله : { بل أكثرهم لا يعلمون } يعني أنهم لا يعلمون أن كل الحمد لله وليس شيء منه للأصنام . الثالث : قال القاضي في «التفسير » : قال للرسول عليه الصلاة والسلام : { قل الحمد لله } ويحتمل أن يكون خطابا لمن رزقه الله رزقا حسنا أن يقول : الحمد لله على أن ميزه في هذه القدرة على ذلك العبد الضعيف . الرابع : يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى لما ذكر هذا المثل ، وكان هذا مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال بعده : { الحمد لله } يعني الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة . ثم قال : { بل أكثرهم لا يعلمون } يعني أنها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها لا يعلمها ولا يفهمها هؤلاء الضلال .