مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

قوله تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } .

هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل ، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولا بذكر النهي عن الزنا وثانيا بذكر النهي عن القتل ؟

وجوابه : أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود ، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود . ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى الزنا أولا ثم ذكر القتل ثانيا .

المسألة الثانية : اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة ، والحل إنما يثبت بسبب عارضي ، فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقا بناء على حكم الأصل ، ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال : { إلا بالحق } فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم ، والذي يدل عليه وجوه : الأول : أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } { ولا يريد بكم العسر } « ولا ضرر ولا ضرار » الثاني : قوله عليه السلام : « الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب » الثالث : أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ولقوله عليه السلام : « حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا » والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل . الرابع : أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى : { ولا تفسدوا } الخامس : أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح ، ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحا لا لمرجع وهو محال . السادس : أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنسانا عاقلا حكمنا فيه بتحريم قتله ، وما لم نعرف شيئا زائدا على كونه إنسانا لم نحكم فيه بحل دمه ، ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل ، وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم . وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية .

وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } فقوله : { ولا تقتلوا } نهي وتحريم ، وقوله : { حرم الله } إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ، ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال : { إلا بالحق } ثم ههنا طريقان :

الطريق الأول : أن مجرد قوله : { إلا بالحق } مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو ؟ ثم إنه تعالى قال : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } أي في استيفاء القصاص من القاتل ، وهذا الكلام يصلح جعله بيانا لذلك المجمل ، وتقريره كأنه تعالى قال : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وذلك الحق هو أن من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في استيفاء القصاص . وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط ، فصار تقدير الآية : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص ، وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصا صريحا في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد ، فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة .

والطريق الثاني : أن نقول : دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة : وهو قوله عليه السلام : « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق » .

واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد . فإن قلنا : إن قوله : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } تفسير لقوله : { إلا بالحق } كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد ، فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصا لهذه الآية ويصير ذلك فرعا لقولنا : إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وأما إن قلنا : إن قوله : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } ليس تفسيرا لقوله : { إلا بالحق } فحينئذ يصير هذا الخبر مفسرا للحق المذكور في الآية ، وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعا على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . فلتكن هذه الدقيقة معلومة ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم ، وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه : وهو الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر . قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } وقال : { واقتلوهم حيث وجدتموهم } والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها : أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا ؟ فعند الشافعي رحمه الله يقتل ، وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل . وثانيها : أن فعل اللواط هل يوجب القتل ؟ فعند الشافعي يوجب ، وعند أبي حنيفة لا يوجب . وثالثها : أن الساحر إذا قال : قتلت بسحري فلانا فعند الشافعي يوجب القتل ، وعند أبي حنيفة لا يوجب . ورابعها : أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص ؟ فعند الشافعي يوجب . وعند أبي حنيفة لا يوجب . وخامسها : أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا ؟ اختلفوا فيه في زمان أبي بكر . وسادسها : أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل ، فعند أكثر الفقهاء لا يوجب ، وعند قوم يوجب ، حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق ، إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم ، ففيما عدا هذا السبب الواحد ، وجب البقاء على أصل الحرمة ، ثم قالوا : وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق ، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض ، وذلك المعارض إما أن يكون نصا متواترا أو نصا من باب الآحاد أو يكون قياسا ، أما النص المتواتر فمفقود ، وإلا لما بقي الخلاف ، وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة ، وأما القياس فلا يعارض النص . فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : قوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف } فيه بحثان :

البحث الأول : أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطانا ، فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيماذا فليس في قوله : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } دلالة عليه ثم ههنا طريقان : الأول : أنه تعالى لما قال بعده : { فلا يسرف في القتل } عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل ، وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل ، لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه . والثاني : أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة : { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } إلى قوله : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيرا بين القصاص وبين الدية . وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح : " من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وعلى هذا الطريق فقوله : { فلا يسرف في القتل } معناه : أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء ، وسلطنة استيفاء الدية إن شاء . قال بعده : { فلا يسرف في القتل } معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة «في » محمولة على الباء ، والمعنى : فلا يصير مسرفا بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال : { وأن تعفو أقرب للتقوى } .

البحث الثاني : أن في قوله : { ومن قتل مظلوما } ذكر كونه مظلوما بصيغة التنكير ، وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال ، فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملا في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص . قال الشافعي رحمه الله : قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية ، بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه ، إنما قلنا : إنه مشرك لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض ، فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئا مغايرا للشرك لوجب أن يصير مغفورا في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية ، فلما لم يصر مغفورا في حق أحد دل على أن كفرهم شرك ، ولأنه تعالى قال : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء ، إما أن يكون تثليثا في الصفات وهو باطل ، لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثا للكفر ، وإما أن يكون تثليثا في الذوات ، وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك ، فثبت أن الذمي مشرك ، وإنما قلنا : إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى : { اقتلوا المشركين } ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة .

وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت أنه ليس كاملا في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وأما الحر إذا قتل عبدا فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } والخاص مقدم على العام ، فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي ، ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد ، والله أعلم .

أما قوله تعالى : { فلا يسرف في القتل } ففيه مباحث :

البحث الأول : فيه وجوه : الأول : المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل ، وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحدا من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقا من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده . الثاني : هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوما معينين ويتركون القاتل . والثالث : هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه . قال القفال : ولا يبعد حمله على الكل ، لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافا .

البحث الثاني : قرأ الأكثرون : { فلا يسرف } بالياء وفيه وجهان : الأول : التقدير : فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل . الثاني : أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء ، أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة عن إقدامه على ذلك القتل الظلم ، وقرأ حمزة والكسائي : { فلا تسرف } بالتاء على الخطاب ، وهذه القراءة تحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الخطاب للمبتدئ القاتل ظلما كأنه قيل له : لا تسرف أيها الإنسان ، وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض ، والمعنى : لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوما استوفى القصاص منك . والآخر : أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير : لا تسرف في القتل أيها الولي ، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة . وأما قوله : { إنه كان منصورا } ففيه ثلاثة أوجه : الأول : كأنه قيل للظالم المبتدئ بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك ، فإن ذلك المقتول يكون منصورا في الدنيا والآخرة ، أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله ، وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله .

والقول الثاني : أن هذا الولي يكون منصورا في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصورا فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه ، لأن من يكون منصورا من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة .

والقول الثالث : أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة . واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان ، لأن الله تعالى يقول : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وقال الحسن : والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } ، والله أعلم .