مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوۡحَىٰٓ إِلَيۡكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلۡحِكۡمَةِۗ وَلَا تَجۡعَلۡ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتُلۡقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومٗا مَّدۡحُورًا} (39)

قوله تعالى { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما } .

اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعا من التكاليف . فأولها : قوله : { ولا تجعل مع الله إلها آخر } وقوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } مشتمل على تكليفين : الأمر بعبادة الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله ، فكان المجموع ثلاثة . وقوله : { وبالوالدين إحسانا }هو الرابع ، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي : قوله : { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما } فيكون المجموع تسعة ، ثم قال : { وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } وهو ثلاثة فيكون المجموع اثني عشر . ثم قال : { ولا تبذر تبذيرا } فيصير ثلاثة عشر . ثم قال : { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } وهو الرابع عشر ثم قال : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } إلى آخر الآية وهو الخامس عشر ، ثم قال : { ولا تقتلوا أولادكم } وهو السادس عشر ، ثم قال : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وهو السابع عشر ثم قال : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وهو الثامن عشر ، ثم قال : { فلا يسرف في القتل } وهو التاسع عشر ، ثم قال : { وأوفوا بالعهد } وهو العشرون . ثم قال : { وأوفوا الكيل إذا كلتم } وهو الحادي والعشرون ، ثم قال : { وزنوا بالقسطاس المستقيم } وهو الثاني والعشرون ، ثم قال : { ولا تقف ما ليس لك به علم } وهو الثالث والعشرون ، ثم قال : { ولا تمش في الأرض مرحا } وهو الرابع والعشرون ، ثم قال : { ولا تجعل مع الله إلها آخر } وهو الخامس والعشرون ، فهذه خمسة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله : { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } وخاتمتها قوله : { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا } إذا عرفت هذا فنقول : ههنا فوائد :

الفائدة الأولى : قوله : { ذلك } إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة ، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه : أحدها : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها . فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعيا إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعيا إلى دين الرحمن ، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } وثانيها : أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحكمة من هذا الاعتبار . وثالثها : أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها ، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة ، وعن ابن عباس : أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام : أولها : { ولا تجعل مع الله إلها آخر } قال تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء } .

والفائدة الثانية : من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد ، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى ، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد ، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد ، تنبيها على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه ، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا ، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوما مدحورا ، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول ، وبين الملوم المدحور . فنقول : أما الفرق بين المذموم وبين الملوم ، فهو أن كونه مذموما معناه : أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر ، فهذا معنى كونه مذموما ، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل ، وما الذي حملك عليه ، وما استفدت من هذا العمل إلا إلحاق الضرر بنفسك ؟ وهذا هو اللوم . فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموما ، وآخره أن يصير ملوما ، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت ، وأما المدحور فهو المطرود . والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى : { ويخلد فيه مهانا } فكونه مخذولا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحورا عبارة عن إهانته والاستخفاف به ، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولا ، وآخره أن يصير مدحورا ، والله أعلم بمراده .