مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَكُلِي وَٱشۡرَبِي وَقَرِّي عَيۡنٗاۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدٗا فَقُولِيٓ إِنِّي نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَٰنِ صَوۡمٗا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡيَوۡمَ إِنسِيّٗا} (26)

المسألة السادسة : فكلي واشربي وقري عينا قرئ بكسر القاف لغة نجد ونقول قدم الأكل على الشرب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدماء ، ثم قال : وقري عينا ، وههنا سؤال ، وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش والدليل عليه أمران : أحدهما : أن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن . والثاني : ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفا من الذئب ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن فدلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن . إذا ثبت هذا فنقول : فلم قدم الله تعالى في الحكاية دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف ، والجواب أن هذا الخوف كان قليلا لأن بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدمت فما كانت تحتاج إلى التذكير مرة أخرى .

المسألة السابعة : قال صاحب «الكشاف » قرأ ترئن بالهمز ابن الرومي عن أبي عمرو وهذا من لغة من يقول لبات بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال { صوما } صمتا وفي مصحف عبد الله صمتا وعن أنس بن مالك مثله وقيل صياما إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالا على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزا في شرعهم ، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا قال القفال لعله يجوز لأن الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر لذكر الله تعالى قربة ، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس ، وروي أنه دخل أبو بكر على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي ، والله أعلم .

المسألة الثامنة : أمرها الله تعالى بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام لمعنيين : أحدهما : أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها وفيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى . والثاني : كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها .

المسألة التاسعة : اختلفوا في أنها هل قالت معهم : { إني نذرت للرحمن صوما } فقال قوم : إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأن تأتي بهذا النذر عند رؤيتهم فإذا أتت بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها أمسكت وأومأت برأسها ، وقال آخرون : إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم : { إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } وهذه الصيغة وإن كانت عامة إلا أنها صارت بالقرينة مخصوصة في حق هذا الكلام .