مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا} (6)

واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه . أحدها : أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك .

وثانيها : أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح . وثالثها : يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضا عن ابن عباس والحسن والضحاك . ورابعها : يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال فلقوله تعالى :{ أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } وأما في العلم فلقوله تعالى : { ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بنى إسرائيل الكتاب } وقال عليه السلام : « العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم » وقال تعالى : { ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داوود } وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غما وحزنا ، وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه . واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام : « رحم الله زكريا ما كان له من يرثه » وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين . الأول : أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال . الثاني : أنه قال { واجعله رب رضيا } ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي صلى الله عليه وسلم رضيا وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضيا معصوما ، وأما قوله عليه السلام : « إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة » فهذا لا يمنع أن يكون خاصا به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر الدين ، وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتما به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الابن أن يصير نبيا بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام : « إنا معشر الأنبياء » فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر } لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لا سيما وقد روي قوله : « إنا معاشر الأنبياء لا نورث » والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح ، فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائما مستمرا . السابع : اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب ههنا هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء عليه السلام فهو من ولد هرون أخي موسى عليه السلام وهرون وموسى عليهما السلام من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب ههنا ولد إسحق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل .

وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم ، واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوها . أحدها : أن المراد واجعله رضيا من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية ، وهذا غاية ما يكون به المرء رضيا . وثانيها : المراد بالرضي أن يكون رضيا في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد . وثالثها : المراد بالرضي أن لا يكون متهما في شيء ولا يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي . ورابعها : أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء : { ربنا واجعلنا مسلمين لك } وكانا في ذلك الوقت مسلمين ، وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا ههنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضيا بفعله ، فلما سأل الله تعالى جعله رضيا دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى . فإن قيل : المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضيا فينسب ذلك إلى الله تعالى . والجواب من وجهين : الأول : أن جعله رضيا لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضيا لكان ذلك مجازا وهو خلاف الأصل . والثاني : أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجبا لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع .