اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنۡ ءَالِ يَعۡقُوبَۖ وَٱجۡعَلۡهُ رَبِّ رَضِيّٗا} (6)

واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ ، فقال ابنُ عبَّاس ، والحسنُ ، والضحاك : وراثةُ المالِ في الموضعين{[21417]} .

وقال أبو صالح : وراثةُ النبوَّةِ{[21418]} .

وقال السديُّ ، ومجاهدٌ ، والشعبيُّ : يَرِثُنِي المال ، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة{[21419]} .

وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس ، والحسن ، والضحاك .

وقال مجاهدٌ : يرِثُنِي العلم ، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة{[21420]} . واعلم أن لفظ الإرث يستعملُ في جميعها : أمَّا في المال فلقوله تعالى : { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } [ الأحزاب : 27 ] وأما في العلم ، فلقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب } [ غافر : 53 ] .

وقال -عليه الصلاة والسلام- : " العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً ، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ " {[21421]} .

وقال تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] وهذا يحتملُ وراثة الملك ، ووارثة النبوَّة ، وقد يقال : أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً .

فصل في أولى ما تحمل عليه الآية

قال الزَّجاج : الأولى أن يحمل على ميراث غير المال ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : " نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ -لا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ " {[21422]} ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا -وهو نبيٌّ من الأنبياء- أن يرث بنُو عمِّه مالهُ .

والمعنى : أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله ، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين ، وقتل من قُتل من الأنبياء ، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته ، ويرثُ نُبوَّته وعلمه ؛ لئلاَّ يضيع الدِّين .

قوله : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ؛ الآلُ : خاصَّةُ الرجل الذي يئول أمرهم إليه ، ثم قد يئوُل أمرهم إليه لقرابةِ المقربين تارةً ؛ وبالصحابة أخرى ؛ كآل فرعون ، وللموافقة في الدِّين ؛ كآل النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- .

وأكثر المفسِّرين على أنَّ يعقوب هنا : هو يعقوبُ بنُ إسحاق بن إبراهيم -عليه السلام- لأنَّ زوجة زكريَّا -عليه السلام- هي أختُ مريم ، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب ، وأمَّا زكريا -عليه السلام- فهو من ولد هارون أخي موسى ، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت النبوة في سِبْط يعقوب ؛ لأنَّه هو إسرائيلُ -عليه السلام- .

وقال بعضُ المفسِّرين : ليس المرادُ من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم ، بل يعقُوب بن ماثان ، [ أخو عمران بن ماثان ]{[21423]} ، وكان آلُ يعقوب أخوال يحيى بن زكريَّا ، وهذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل{[21424]} .

وقال الكلبيُّ : كان بنُو ماثان رُءوس بني إسرائيل ومُلُوكهُم ، وكان زكريَّا رئيس الأحبار يومئذٍ ، فأراد أن يرثه حُبُورته ، ويرث بنو ماثان ملكهم{[21425]} .

فصل في تفسير " رضيًّا "

اختلفوا في تفسير " رَضِيًّا " فقيل : برًّا تقيًّا مرضيًّا .

وقيل : مرضيًّا من الأنبياء ، ولذلك استجاب الله له ؛ فوهب له يحيى سيِّداً ، وحصُوراً ، ونبيًّا من الصَّالحين ، لم يعصِ ، ولم يهم بمعصية .

وقيل : " رَضِيًّا " في أمَّته لا يتلقَّى بالتَّكذيب ، ولا يواجهُ بالرَّدِّ .

فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال

احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال ؛ لأنَّ زكريَّا -عليه السلام- سأل الله تعالى أن يجعله رضيًّا ؛ فدلَّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى .

فإن قيل : المرادُ : أن يلطف به بضُرُوب الألطاف فيختار ما يصير به رضيًّا عنده ، فنسب ذلك إلى الله تعالى .

فالجوابُ من وجهين :

الأول : لو حملناه على جعل الألطاف ، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيًّا ؛ لكان ذلك مجازاً ، وهو خلافُ الأصل .

الثاني : أنَّ جعل تلك الألطاف واجبةً على الله تعالى ، لا يجوزُ الإخلال به ، وما كان واجباً لا يجوزُ طلبهُ بالدُّعاء والتضرُّع .


[21417]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/308).
[21418]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/308) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/467 وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
[21419]:أخرجه الطبري (8/308) عن الحسن وأبي صالح.
[21420]:أخرجه الطبري (8/308)) عن مجاهد وينظر: تفسير الماوردي (3/356).
[21421]:تقدم تخريجه.
[21422]:تقدم تخريجه.
[21423]:سقط من أ.
[21424]:ينظر: تفسير القرطبي (11/56) والماوردي (3/356).
[21425]:ينظر: المصدر السابق.