مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلِكُلّٖ وِجۡهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَاۖ فَٱسۡتَبِقُواْ ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ أَيۡنَ مَا تَكُونُواْ يَأۡتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (148)

قوله تعالى : { ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير } .

اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله : { ولكل } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : إنما قال : { ولكل } ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } .

المسألة الثانية : ذكروا فيه أربعة أوجه ( أحدها ) : أنه يتناول جميع الفرق ، أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين ، وهو قول الأصم ، قال : لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } ( وثانيها ) : وهو قول أكثر علماء التابعين ، أن المراد أهل الكتاب وهم : المسلمون واليهود والنصارى ، والمشركون غير داخلين فيه ( وثالثها ) قال بعضهم : المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها : جنوبية أو شمالية ، أو شرقية أو غربية ، واحتجوا على هذا القول بوجهين ( الأول ) : قوله تعالى : { هو موليها } يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة ، لأن ما عداها تولية الشيطان ( الثاني ) : أن الله تعالى عقبه بقوله : { فاستبقوا الخيرات } والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة ، والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة . ( ورابعها ) : قال آخرون : ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة ، فقبلة المقربين : العرش ، وقبلة الروحانيين : الكرسي ، وقبلة الكروبيين : البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة .

أما قوله تعالى : { وجهة } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرئ : { ولكل وجهة } على الإضافة والمعنى : وكل وجهة هو موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضارب .

المسألة الثانية : قال الفاء : وجهة ، ووجه بمعنى واحد ، واختلفوا في المراد فقال الحسن : المراد المنهاج والشرع ، وهو كقوله تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكا } { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } والمراد منه أن للشرائع مصالح ، فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص ، وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضا اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد ، فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير ، وقال الباقون : المراد منه أمر القبلة ، لأنه تقدم قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك .

أما قوله : { هو موليها } ففيه وجهان ( الأول ) : أنه عائد إلى الكل ، أي ولكل أحد وجهة هو مولي وجهه إليها ( الثاني ) : أنه عائد إلى اسم الله تعالى ، أي الله تعالى يوليها إياه ، وتقدير الكلام على الوجه الأول أن نقول : أن لكل منكم وجهة أي جهة من القبلة هو موليها ، أي هو مستقبلها . ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه ، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه ، فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، مع لزوم الأديان المختلفة : { فاستبقوا الخيرات } أي فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم ، وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعا في صعيد القيامة ، فيفصل بين المحق منكم والمبطل ، حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي ، ومن المصيب منكم ومن المخطئ ، إنه على ذلك قادر ، ومن قال بهذا التأويل قال : المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها ، إما بشريعة وإما بهوى ، فلستم تؤخذون بفعل غيركم ، فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ، وإما تقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله : { هو موليها } عائدا إلى الله تعالى فههنا وجهان ( الأول ) : أن الله تعالى عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده ، إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحا فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما ، فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين ، فإن انقيادكم خيرات لكم ، ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون : { ما ولاهم عن قبلتهم } فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعا في عرصة القيامة ، فيفصل بينكم ( الثاني ) : أنا إذا فسرنا قوله : { ولكل وجهة } بجهات الكعبة ونواحيها ، كان المعنى : ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة ، أي ناحية من الكعبة : { فاستبقوا الخيرات } بالتوجه إليها من جميع النواحي ، فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعا ويثيبهم على أعمالهم .

أما قوله تعالى : { هو موليها } أي هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه ، قال الفراء : أي مستقبلها وقال أبو معاذ : موليها على معنى متوليها يقال : قد تولاها ورضيها وأتبعها ، وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي : { هو مولاها } وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن علي الباقر وفي قراءة الباقين : { موليها } ولقراءة ابن عامر معنيان ( أحدهما ) : أن ما وليته فقد ولاك ، لأن معنى وليته أي جعلته بحيث تليه وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك فذاك أيضا ، يلي هذا ، فإذن قد ولى كل واحد منهما الآخر وهو كقوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات } و{ لا ينال عهدي الظالمين } والظالمون ، وهذا قول الفراء ( والثاني ) : { هو موليها } أي قد زينت له تلك الجهة وحببت إليه ، أي صارت بحيث يحبها ويرضاها .

أما قوله : { فاستبقوا الخيرات } فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها ، واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعي رضي الله عنه أفضل ، خلافا لأبي حنيفة ، واحتج الشافعي بوجوه : ( أولها ) أن الصلاة خير لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الصلاة خير موضوع ) وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديمه أفضل لقوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات } وظاهر الأمر للوجوب ، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب ( وثانيها ) : قوله { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } ومعناه إلى ما يوجب المغفرة والصلاة مما يوجب المغفرة فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة . ( وثالثها ) قوله تعالى : { والسابقون السابقون أولئك المقربون } ولا شك أن المراد منه السابقون في الطاعات ، ولا شك أن الصلاة من الطاعات ، وقوله تعالى : { أولئك المقربون } يفيد الحصر ، فمعناه أنه لا يقرب عند الله إلا السابقون وذلك يدل على أن كمال الفضل منوط بالمسابقة ( ورابعها ) قوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } والمعنى : وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة ، ولا شك أن الصلاة كذلك ، فكانت المسارعة بها مأمورة ( وخامسها ) : أنه مدح الأنبياء المتقدمين بقوله تعالى : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } ولا شك أن الصلاة من الخيرات ، لقوله عليه السلام : ( خير أعمالكم الصلاة ) ( وسادسها ) : أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة فقال : { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } وهذا يدل على أن ترك المسارعة موجب للذم ( وسابعها ) : قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات } والمحافظة لا تحصل إلا بالتعجيل ، ليأمن الفوت بالنسيان وسائر الأشغال . ( وثامنها ) قوله تعالى : حكاية عن موسى عليه السلام : { وعجلت إليك رب لترضى } فثبت أن الاستعجال أولى ( وتاسعها ) : قوله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة فكذا في هذه الصورة ( وعاشرها ) : ما روى عمر وجرير بن عبد الله وأنس وأبو محذورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله ) قال الصديق رضي الله عنه : رضوان الله أحب إلينا من عفوه . قال الشافعي رضي الله عنه : رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين فإن قيل هذا احتجاج في غير موضعه لأنه يقتضي أن يأثم بالتأخير ، وأجمعنا على أنه لا يأثم فلم يبق إلا أن يكون معناه أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة ، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله ، فكان التأخير موجبا للعفو والرضوان ، والتقديم موجبا للرضوان دون العفو فكان التأخير أولى قلنا : هذا ضعيف من وجوه ( الأول ) : أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل وذلك لم يقله أحد . ( الثاني ) : أنه عدم المسارعة الامتثال يشبه عدم الالتفات ، وذلك يقتضي العقاب ، إلا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء ( الثالث ) : أن تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه يبطل هذا التأويل الذي ذكروه .

الحادي عشر : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا علي ثلاث لا تؤخرها : الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤا ) .

الثاني عشر : عن ابن مسعود أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة لميقاتها الأول .

الثالث عشر : روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الرجل ليصلي الصلاة وقد فاته من أول الوقت ما هو خير له من أهله وماله ) .

الرابع عشر : قال عليه السلام : ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فمن كان أسبق في الطاعة كان هو الذي سن عمل الطاعة في ذلك الوقت ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر .

الخامس عشر : إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشديد بين أهل السنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاما أم عليا ، وما ذاك إلا اتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل وذلك يدل على قولنا .

السادس عشر : قوله عليه السلام في خطبة له : ( وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا ) ولا شك أن الصلاة من الأعمال الصالحة .

السابع عشر : أن تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها ، فوجب أن يكون الحال في أداء حقوق الله تعالى كذلك ، والجامع بينهما رعاية معنى التعظيم .

الثامن عشر : أن المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة ، والولوع بها ، والرغبة فيها وفي التأخير كسل عنها ، فيكون الأول أولى .

التاسع عشر : أن الاحتياط في تعجيل الصلاة لأنه إذا أداها في أول الوقت تفرغت ذمته ، فإذا أخر فربما عرض له شغل فمنعه عن أدائها فيبقى الواجب في ذمته ، فالوجه الذي يحصل فيه الاحتياط لا شك أنه أولى .

العشرون : أجمعنا في صوم رمضان أن تعجيله أفضل من تأخيره وذلك لأن المريض يجوز له أن يفطر ويؤخر الصوم ، ويجوز له أن يعجل ويصوم في الحال ، ثم أجمعنا على أن التعجيل في الصوم أفضل على ما قال : { وأن تصوموا خير لكم } فوجب أيضا أن يكون التعجيل في الصلاة أولى فإن قيل : تنتقض هذه الدلائل القياسية بالظهر في شدة الحر ، أو بما إذا حصل له رجاء إدراك الجماعة أو وجود الماء قلنا : التأخير ثبت في هذه المواضع لأمور عارضة ، وكلامنا في مقتضى الأصل .

الحادي والعشرون : المسارعة إلى الامتثال أحسن في العرف من ترك المسارعة ، فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام : ( ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ) .

الثاني والعشرون : صلاة كملت شرائطها فوجب أداؤها في أول الوقت ، كالمغرب ففيه احتراز عن الظهر في شدة الحر ، لأنه إنما يستحب التأخير إذا أراد أن يصليها في المسجد لأجل أن المشي إلى المسجد في شدة الحر كالمانع ، أما إذا صلاها في داره فالتعجيل أفضل ، وفيه احتراز عمن يدافع الأخبثين أو حضره الطعام وبه جوع لهذا المعنى أيضا ، وكذلك المتيمم إذا كان على ثقة من وجود الماء ، وكذلك إذا توقع حضور الجماعة فإن الكمال لم يحصل في هذه الصورة ، فهذه هي الأدلة الدالة على أن المسارعة أفضل ، ولنذكر كل واحد من الصلوات :

أما صلاة الفجر فقال محمد : المستحب أن يدخل فيها بالتغليس ، ويخرج منها بالإسفار ، فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل ، وقال الشافعي رضي الله عنه : التغليس أفضل ، وهو مذهب أبي بكر وعمر وبه قال مالك وأحمد ، واحتج الشافعي رضي الله عنه بعد الدلائل السالفة بوجوه . ( أحدها ) : ما أخرج في الصحيحين برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس » قال محيي السنة في كتاب «شرح السنة » : متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن ، والتلفع بالثوب الاشتمال ، والمروط : الأردية الواسعة ، واحدها مرط ، والغلس : ظلمة آخر الليل ، فإن قيل : كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالغلس كيلا يعرفن ، وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس ، ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك قلنا : الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ ، ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية . ( وثالثها ) : ما أخرج في الصحيحين عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة ، قال قلت : كم كان قدر ذلك ، قال : قدر خمسين آية ، وهذا يدل أيضا على التغليس . ( وثالثها ) : ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلس بالصبح ، ثم أسفر مرة ، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضة الله تعالى . ( ورابعها ) : أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال : { والمستغفرين بالأسحار } ومدح التاركين للنوم فقال : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا } وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن الله : ( لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل .

( وخامسها ) : أن النوم في ذلك الوقت أطيب ، فيكون تركه أشق ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لقوله عليه السلام : ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها ، واحتج أبو حنيفة بوجوه ( أحدها ) : قوله عليه السلام : ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ) . ( وثانيها ) : روى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بالمزدلفة فغلس ، ثم قال ابن مسعود : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر ، فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها ( وثالثها ) : عن ابن مسعود قال : ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر ( ورابعها ) : عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران ، فقالوا : كادت الشمس أن تطلع ، فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين ، وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين . ( وخامسها ) : أن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار ، وقال عليه السلام : ( المنتظر للصلاة كمن هو في الصلاة ) فمن أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولا ثم بها ثانيا ومن صلاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار . ( وسادسها ) : أن التأخير يفضي إلى كثرة الجماعة فوجب أن يكون أولى تحصيلا لفضل الجماعة ( وسابعها ) : أن التغليس يضيق على الناس ، لأنه إذا كان الصلاة في وقت الغليس احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ بالليل حتى يتفرغ للصلاة بعد طلوع الفجر ، والحرج منفي شرعا ( وثامنها ) : أنه تكره الصلاة بعد صلاة الفجر فإذا صلى وقت الإسفار فإنه يقل وقت الكراهة ، وإذا صلى بالتغليس فإنه يكثر وقت الكراهة .

( والجواب عن الأول ) : أن الفجر اسم للنور الذي ينفي به ظلام المشرق ، فالفجر إنما يكون فجرا لو كانت الظلمة باقية في الهواء ، فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجرا ، وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور ، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه ، إذا ثبت هذا فنقول : ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء ، فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد ، فقوله : «أسفروا بالفجر » يجب أن يكون محمولا على التغليس ، أي كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر أظهر وأبهر كان أكثر ثوابا ، وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر ، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه أن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقن طلوع الفجر وزوال الشك عنه ، والذي يدل على ما قلنا أن أداء الصلاة في ذلك الوقت أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثوابا ، وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير فهو عادة أهل الكسل ، فكيف يمكن أن يقول الشارع : إن الكسل أفضل من الجد في الطاعة .

( والجواب عن الثاني ) : وهو قول ابن مسعود : حافظوا على التنوير بالفجر ، فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت ، فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجرا ، وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم .

أما قوله تعالى : { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا } فهو وعد لأهل الطاعة ، ووعيد لأهل المعصية ، كأنه تعالى قال : استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى ، ثم إنه سبحانه حقق بقوله : { إن الله على كل شيء قدير } وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة وهو قادر على جميع الممكنات ، فوجب أن يكون قادرا على الإعادة ، وأما المسائل المستنبطة من هذه الآية ، فقد ذكرناها في قوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير } .