مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (257)

قوله تعالى { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .

فيه مسألتان :

المسألة الأولى : ( الولي ) فعيل بمعنى فاعل من قولهم : ولي فلان الشيء يليه ولاية فهو وال وولي ، وأصله من الولي الذي هو القرب ، قال الهذلي :

وعدت عواد دون وليك تشغب *** . . .

ومنه يقال : داري تلي دارها ، أي تقرب منها ، ومنه يقال : للمحب المعاون : ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك ، ومنه الوالي ، لأنه يلي القوم بالتدبير والأمر والنهي ومنه المولى ومن ثم قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشيء إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العداوة .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر ، بأن قالوا : الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما يكون سببا لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب ولأجله قال تعالى : { يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] فجعل القيم بعمارة المسجد وليا له ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه ، فلما كان معنى الولي المتكفل بالمصالح ، ثم إنه تعالى جعل نفسه وليا للمؤمنين على التخصيص ، علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار ، وعند المعتزلة أنه تعالى سوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والألطاف ، فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم ، قالت المعتزلة : هذا التخصيص محمول على أحد وجوه الأول : أن هذا محمول على زيادة الألطاف ، كما ذكره في قوله { والذين اهتدوا زادهم هدى } [ محمد : 17 ] وتقريره من حيث العقل أن الخير والطاعة يدعو بعضه إلى بعض ، وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلسا يجري فيه الوعظ ، فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار ، ويكون حاله مفارقا لحال من قسا قلبه بالكفر والمعاصي ، وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره ، فكان تخصيص المؤمنين بأنه تعالى وليهم محمولا على ذلك .

والوجه الثاني : أنه تعالى يثيبهم في الآخرة ، ويخصهم بالنعيم المقيم والإكرام العظيم فكان التخصيص محمولا عليه .

والوجه الثالث : وهو أنه تعالى وإن كان وليا للكل بمعنى كونه متكفلا بمصالح الكل على السوية ، إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن ، فصح تخصيصه بهذه الآية ، كما في قوله { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] .

الوجه الرابع : أنه تعالى ولي المؤمنين ، بمعنى : أنه يحبهم ، والمراد أنه يحب تعظيمهم .

أجاب الأصحاب عن الأول بأن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم ، ولا يكون لله تعالى في حق المؤمن إلا أداء الواجب ، وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر ، بل المؤمن فعل ما لأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف .

أما السؤال الثاني : وهو أنه تعالى يثيبه في الآخرة فهو أيضا بعيد ، لأن ذلك الثواب واجب على الله تعالى ، فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقا على الله ذلك الثواب ، فيكون وليه هو نفسه ولا يكون الله هو وليا له .

وأما السؤال الثالث : وهو أن المنتفع بولاية الله هو المؤمن ، فنقول : هذا الأمر الذي امتاز به المؤمن عن الكافر في باب الولاية صدر من العبد لا من الله تعالى ، فكان ولي العبد على هذا القول هو العبد نفسه لا غير .

وأما السؤال الرابع : وهو أن الولاية ههنا معناها المحبة والجواب : أن المحبة معناها إعطاء الثواب ، وذلك هو السؤال الثاني ، وقد أجبنا عنه .

أما قوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : أجمع المفسرون على أن المراد ههنا من الظلمات والنور : الكفر والإيمان فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان ، فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله ، لأنه لو حصل بخلق العبد لكان هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان ، وذلك يناقض صريح الآية .

أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول : أن الإخراج من الظلمات إلى النور محمول على نصب الدلائل ، وإرسال الأنبياء ، وإنزال الكتب ، والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه ، والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه ، وقال القاضي : قد نسب الله تعالى الإضلال إلى الصنم في قوله { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } [ إبراهيم : 36 ] لأجل أن الأصنام سبب بوجه ما لضالهم ، فإن يضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الله تعالى مع قوة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن كان أولى .

والوجه الثاني : أن يحمل الإخراج من الظلمات إلى النور على أنه تعالى يعدل بهم من النار إلى الجنة قال القاضي : هذا أدخل في الحقيقة ، لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى فكأنه فعله .

والجواب عن الأول من وجهين : أحدهما : أن هذه الإضافة حقيقة في الفعل ، مجاز في الحث والترغيب ، والأصل حمل اللفظ على الحقيقة والثاني : أن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية صار الراجح واجبا ، والمرجوح ممتنعا ، وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج .

وأما السؤال الثاني : وهو حمل اللفظ على العدول بهم من النار إلى الجنة فهو أيضا مدفوع من وجهين الأول : قال الواقدي : كل ما كان في القرآن { من الظلمات إلى النور } فإنه أراد به الكفر والإيمان ، غير قوله تعالى في سورة الأنعام { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فإنه يعني به الليل والنهار ، وقال : وجعل الكفر ظلمة ، لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نورا لأنه كالسبب في حصول الإدراك .

والجواب الثاني : أن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عند المعتزلة فلا يجوز حمل اللفظ عليه .

المسألة الثانية : قوله { يخرجهم من الظلمات إلى النور } ظاهره يقتضي أنهم كانوا في الكفر ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان ، ثم ههنا قولان :

القول الأول : أن يجري اللفظ على ظاهره ، وهو أن هذه الآية مختصة بمن كان كافرا ثم أسلم ، والقائلون بهذا القول ذكروا في سبب النزول روايات أحدهما : قال مجاهد : هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام وقوم كفروا به ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به من كفر بعيسى ، وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام وثانيتها : أن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام على طريقة النصارى ، ثم آمنوا بعده بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به ظلمة وكفرا ، لأن القول بالاتحاد كفر ، والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام وثالثتها : أن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد صلى الله عليه وسلم .

والقول الثاني : أن يحمل اللفظ على كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر أو لم يكن كذلك ، وتقريره أنه لا يبعد أن يقال يخرجهم من النور إلى الظلمات وإن لم يكونوا في الظلمات البتة ، ويدل على جوازه : القرآن والخبر والعرف ، أما القرآن فقوله تعالى : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار وقال { لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي } [ يونس : 98 ] ولم يكن نزل بهم عذاب البتة ، وقال في قصة يوسف عليه السلام : { تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله } [ يوسف : 37 ] ولم يكن فيها قط ، وقال : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } [ النحل : 70 ] وما كانوا فيه قط ، وأما الخبر فروي « أنه صلى الله عليه وسلم سمع إنسانا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال على الفطرة ، فلما قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال خرج من النار » ، ومعلوم أنه ما كان فيها ، وروي أيضا « أنه صلى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه فقال : تتهافتون في النار تهافت الجراد ، وها أنا آخذ بحجزكم » ، ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار ، وأما العرف فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له : أخرجتني من مالك أي لم تجعل لي فيه شيئا ، لا أنه كان فيه ثم أخرج منه ، وتحقيقه أن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات . فصار توفيقه تعالى سببا لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع مشابهة ، فهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع والله أعلم .

أما قوله تعالى : { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } فاعلم أنه قرأ الحسن " أولياؤهم الطواغيت " واحتج بقوله تعالى بعده { يخرجونهم } إلا أنه شاذ مخالف للمصحف وأيضا قد بينا في اشتقاق هذا اللفظ أنه مفرد لا جمع .

أما قوله تعالى { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } فقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله تعالى ، قالوا : لأنه تعالى أضافه إلى الطاغوت مجازا باتفاق ، لأن المراد من الطاغوت على أظهر الأقوال هو الصنم ويتأكد هذا بقوله تعالى : { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } [ إبراهيم : 36 ] فأضاف الإضلال إلى الصنم ، وإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق بيننا وبينكم مجازا ، خرجت عن أن تكون حجة لكم .

ثم قال تعالى : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفار فقط ، ويحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت معا ، فيكون زجرا للكل ووعيدا ، لأن لفظ { أولئك } إذا كان جمعا وصح رجوعه إلى كلا المذكورين ، وجب رجوعه إليهما معا ، والله تعالى أعلم بالصواب .