مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوٓاْ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَٰعِلِينَ} (68)

قوله تعالى :{ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ، ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين }

اعلم أنه تعالى لما بين ما أظهره إبراهيم عليه السلام من دلائل التوحيد وإبطال ما كانوا عليه من عبادة التماثيل أتبعه بما يدل على جهلهم ، وأنهم : { قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم } وههنا مسائل :

المسألة الأولى : ليس في القرآن من القائل لذلك والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح ، وقال مجاهد : سمعت ابن عمر يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس ، وروى ابن جريج عن وهب عن شعيب الجبائي قال : إن الذي قال حرقوه رجل اسمه هيرين ، فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .

المسألة الثانية : أما كيفية القصة فقال مقاتل : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة ، وذلك قوله : { قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم } ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجعلن حطبا لإبراهيم ، ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوما ، فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ، ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه ، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيدا مغلولا ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة ، أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه ، فخلوا بيني وبينه ، فلما أرادوا إلقاءه في النار ، أتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم عليه السلام : لا حاجة بي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : «اللهم أنت الواحد في السماء ، وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، أنت حسبنا ونعم الوكيل » وقيل إنه حين ألقي في النار قال : «لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك » ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به النار ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : يا إبراهيم هل لك حاجة ، قال : أما إليك فلا ؟ قال : فاسأل ربك ، قال : حسبي من سؤالي ، علمه بحالي .

فقال الله تعالى : { قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } وقال السدي : إنما قال ذلك جبريل عليه السلام ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية مجاهد : ولو لم يتبع بردا سلاما لمات إبراهيم من بردها ، قال : ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت ، ثم قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض ، فإذا عين ماء عذب ، وورد أحمر ، ونرجس . ولم تحرق النار منه إلا وثاقه ، وقال المنهال بن عمرو أخبرت أن إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار كان فيها إما أربعين يوما أو خمسين يوما ، وقال : ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها ، وقال ابن إسحق : بعث الله ملك الظل في صورة إبراهيم ، فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة ، وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي ، ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة ، ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب ، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟ قال : نعم ، قال : قم فاخرج ، فقام يمشي حتى خرج منها ، فلما خرج قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك ؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها . فقال نمروذ : إني مقرب إلى ربك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك . فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال إبراهيم عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دمت على دينك ، فقال نمروذ : لا أستطيع ترك ملكي ، ولكن سوف أذبحها له ، ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام ، ورويت هذه القصة على وجه آخر ، وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه ، ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام ، ثم أطبقوا عليه ، ثم فتحوا عليه من الغد ، فإذا هو غير محترق يعرق عرقا ، فقال لهم هاران أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله ، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته ، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته .

المسألة الثالثة : إنما اختاروا المعاقبة بالنار لأنها أشد العقوبات ، ولهذا قيل : { إن كنتم فاعلين } أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصرا شديدا ، فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق .