فلما ألزمهم الحجة وعجزوا الحجة عن الجواب { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ } ليس في القرآن{[28905]} من القائل ذلك ، والمشهور أنه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب{[28906]} بن نمروذ بن كوش{[28907]} بن حام بن نوح . وقال مجاهد : سمعت ابن عمر{[28908]} يقول : إنما أشار بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد من فارس .
روى ابن جريج{[28909]} عن وهب عن شعيب{[28910]} قال : إن الذي قال حرقوه اسمه هرين{[28911]} فخسف{[28912]} الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة{[28913]} .
قال مقاتل{[28914]} : لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة ، وذلك قوله : { قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم }{[28915]} . ثم جمعوا له الحطب الكثير ، حتى إنَّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم . وقيل : بنوا آتوناً بقرية يقال لها كوثى .
ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً ، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها ، فتلقيه فيه احتساباً في دينها ، فلما اشتعلت النار ، واشتدت حتى إن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فيحترق من شدة وهجها . روي أنَّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها ؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل{[28916]} المنجنيق{[28917]} فعملوه . وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له : هيزن ، وكان أول من صنع المنجنيق ، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . ثم عمدوا إلى إبراهيم -عليه السلام-{[28918]} فوضعوه فيه مقيداً مغلولاً ، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة : أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم ، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته ، فقال سبحانه : { إن استغاث بأحد منكم أودعاه فلينصره ، فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وَليُّهُ فخلوا بيني وبينه ، فإنه خليلي ليس لي خليل{[28919]} غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري }{[28920]} .
فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النار . وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء{[28921]} .
فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل .
قال ابن عباس : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل }{[28922]} قالها إبراهيم حين القي في النار ، وقالها محمد حين قيل له : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء }{[28923]} فحين ألقي في النار قال : «لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك » . ثم رموه في المنجنيق إلى النار ، فأتاه جبريل ، فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فاسأل{[28924]} ربك قال : حسبه{[28925]} من سؤالي علمه بحالي . فقال الله تعالى : { يا نار كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا على إِبْرَاهِيمَ } . قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار . وروت أم شريك{[28926]} أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ وقال : «كان ينفخ على إبراهيم »{[28927]} وقال السُّدِّيّ : القائل { كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا } هو جبريل . وقال ابن عباس في رواية مجاهد : لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم{[28928]} من بردها ، قال : ولم يبق يومئذ نار إلا طفئت ، ولو لم يقل «عَلَى إِبْرَاهِيم » بقيت ذات برد أبداً . قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي{[28929]} إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا{[28930]} عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ، ولم تحرق النار منه لا وثاقه . وقال المنهال{[28931]} بن عمرو{[28932]} : أخبرت{[28933]} أنّ إبراهيم -عليه السلام{[28934]}- لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً ، وقال : ما كنت أطيب عيشاً مني إذا كنت فيها . قال ابن يسار{[28935]} : وبعث الله عز وجل{[28936]} ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه ، وأتى جبريل{[28937]} بقميص من حرير الجنة وَطِنْفسَة{[28938]} فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال : يا إبراهيم إنَّ ربك يقول : أما{[28939]} علمت أن النار لا تضر أحبابي .
ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق ، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟
قال : نعم ، قم فاخرج ، فقام يمشي حتى خرج منها .
قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك ؟ قال : ذاك{[28940]} ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني ، فقال له نمروذ : إني مقرِّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك ، وإنِّي ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال إبراهيم -عليه السلام{[28941]}- لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا ، قال نمروذ : لا أستطيع ترك{[28942]} ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها ثم كف عن إبراهيم .
روي أن إبراهيم -عليه السلام{[28943]}- ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة . وإنما اختاروا المعاقبة بالنار ، لأنها أقوى العقوبات . وقيل{[28944]} : روي أن هاران أبا لوط قال لهم : إن النار لا تحرقه ، لأنه سحر العقوبات . وقيل : روي أن هاران أبا لوط قال لهم : إن النار لا نحرقه ، لأنه سحر النار ، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته ، ففعلوا ، فطارت شرارة في لحية أبي لوط فأحرقته{[28945]} .
قوله : { بَرْداً } أي : ذات برد . والظاهر في «سَلاَماً » أنه نسق على «بَرْداً » فيكن خبراً عن «كوني » . وجوَّز بعضهم أن ينتصب على المصدر المقصود به التحية في العرف وقد رُدَّ هذا بأنه لو قصد ذلك لكان الرفع فيه أولى{[28946]} ، نحو قول إبراهيم : «سَلاَمٌ »{[28947]} ، وهذا غير لازم ، لأنه لا يجوز أن يأتي القرآن على الفصيح والأفصح ، ويدل على ذلك أنه جاء مقصوداً ، والمقصود به التحية نحو قول الملائكة : «قَالُوا سَلاَماً »{[28948]} .
وقوله { عَلَى إبْرَاهِيمَ } متعلق بنفس إن قصد به التحية{[28949]} . ويجوز أن يكون صفة{[28950]} فيتعلق بمحذوف ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون قد حذف صفة الأول لدلالة{[28951]} صفة الثاني عليه تقديره : كوني برداً عيله وسلاماً عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.