مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} (46)

أما قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار وكذلك استماع الأخبار فيه مدخل ، ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب لأن من عاين وسمع ثم لم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع البتة ولو تفكر فيها سمع لانتفع ، فلهذا قال : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } كأنه قال لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها لكن العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروه ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } هل يدل على الأمر بالسفر الجواب : يحتمل أنهم ما سافروا فحثهم على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا ، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا .

السؤال الثاني : ما معنى الضمير في قوله : { فإنها لا تعمى الأبصار } والجواب : هذا الضمير ضمير القصة والشأن يجيء مؤنثا ومذكرا وفي قراءة ابن مسعود { فإنه } ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره الأبصار .

السؤال الثالث : أي فائدة في ذكر الصدور مع أن كل أحد يعلم أن القلب لا يكون إلا في الصدر ؟ الجواب : أن المتعارف أن العمى مكانه الحدقة ، فلما أريد إثباته للقلب على خلاف المتعارف احتيج إلى زيادة بيان كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك ، فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت ، لأن محل المضاء هو هو لا غير ، وكأنك قلت ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك سهوا ، ولكني تعمدته على اليقين . وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر .

السؤال الرابع : هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب ؟ الجواب : نعم لأن المقصود من قوله : { قلوب يعقلون بها } العلم وقوله : { يعقلون بها } كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل ، فوجب جعل القلب محلا للتعقل ويسمى الجهل بالعمى لأن الجاهل لكونه متحيرا بشبه الأعمى .