مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (7)

ثم قال تعالى : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا }

وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالاتقاء بقوله : { يا أيها النبي اتق الله } وأكده بالحكاية التي خشي فيها الناس لكي لا يخشى فيها أحدا غيره وبين أنه لم يرتكب أمرا يوجب الخشية بقوله : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أكده بوجه آخر وقال : { وإذ أخذنا من النبيين } كأنه قال اتق الله ولا تخف أحدا واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين في أنهم يبلغون رسالات الله ولا يمنعهم من ذلك خوف ولا طمع وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المراد من الميثاق المأخوذ من النبيين إرسالهم وأمرهم بالتبليغ .

المسألة الثانية : خص بالذكر أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى لأن موسى وعيسى كان لهما في زمان نبينا قوم وأمة فذكرهما احتجاجا على قومهما ، وإبراهيم كان العرب يقولون بفضله وكانوا يتبعونه في الشعائر بعضها ، ونوحا لأنه كان أصلا ثانيا للناس حيث وجد الخلق منه بعد الطوفان ، وعلى هذا لو قال قائل فآدم كان أولى بالذكر من نوح فنقول خلق آدم كان للعمارة ونبوته كانت مثل الإرشاد للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب ، وأما نوح فكان مخلوقا للنبوة وأرسل للإنذار ولهذا أهلك قومه وأغرقوا .

المسألة الثالثة : في كثير من المواضع يقول الله : { عيسى ابن مريم } { والمسيح ابن مريم } إشارة إلى أنه لا أب له إذ لو كان لوقع التعريف به ، وقوله : { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } غلظ الميثاق هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال تعالى : { ولنسألن المرسلين } وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولا وأمره بشيء وقبله فهو ميثاق ، فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون ذلك تغليظا للميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة ، وعلى هذا يمكن أن يقال بأن المراد من قوله تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا } هو الإخبار بأنهم مسؤلون عنها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته » وكما أن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء جعل الأنبياء قائمين بأمور أمتهم وإرشادهم إلى سبيل الرشاد .