مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ} (51)

ثم بين ما بعد بالصيحة الأولى فقال : { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } أي نفخ فيه ( مرة ) أخرى كما قال تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال تعالى في موضع آخر : { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } وقال ههنا : { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } والقيام غير النسلان وقوله في الموضعين : { فإذا هم } يقتضي أن يكون معا نقول الجواب : عنه من وجهين أحدهما : أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وثانيهما : أن السرعة مجيء الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل :

مكر مفر مقبل مدبر معا *** [ كجلمود صخر حطه السيل من عل ]

المسألة الثانية : كيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الأحياء والإماتة ؟ نقول لا مؤثر غير الله والنفخ علامة ، ثم إن الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة كانت أجزاء الحي مجتمعة فزلزلها فحصل فيها تفريق ، وحالة الموت كانت الأجزاء متفرقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فالحاصل أن النفختين يؤثران تزلزلا وانتقالا للأجرام فعند الاجتماع تتفرق وعند الافتراق تجتمع .

المسألة الثالثة : ما التحقيق في إذا التي للمفاجأة ؟ نقول هي إذا التي للظرف معناه نفخ في الصور فإذا نفخ فيه هم ينسلون لكن الشيء قد يكون ظرفا للشيء معلوما كونه ظرفا ، فعند الكلام يعلم كونه ظرفا وعند المشاهدة لا يتجدد علم كقول القائل إذا طلعت الشمس أضاء الجو وغير ذلك ، فإذا رأى إضاءة الجو عند الطلوع لم يتجدد علم زائد ، وأما إذا قلت خرجت فإذا أسد بالباب كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب . لكنه لم يكن معلوما فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفا له مفاجأة عند الإحساس فقيل إذا للمفاجأة .

المسألة الرابعة : أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال ؟ نقول يجمع الله أجزاء كل واحد في الموضع الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه .

المسألة الخامسة : الموضع موضع ذكر الهيبة وتقدم ذكر الكافر ولفظ الرب يدل على الرحمة فلو قال بدل الرب المضاف إليهم لفظا دالا على الهيبة هل يكون أليق أم لا ؟ قلنا : هذا اللفظ أحسن ما يكون ، لأن من أساء واضطر إلى التوجه من أحسن إليه يكون ذلك أشد ألما وأكثر ندما من غيره .

المسألة السادسة : المسيء إذا توجه إلى المحسن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، والنسلان هو سرعة المشي فكيف يوجد منهم ذلك ؟ نقول : ينسلون من غير اختيارهم ، وقد ذكرنا في تفسير قوله : { فإذا هم ينظرون } أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور ، فيكون في وقته جمع وتركيب وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد ، فقوله : { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } يعني في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب .