مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَهُمۡ فِيهَا فَٰكِهَةٞ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ} (57)

وقال : { لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون } إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وقوله : { متكئون } إشارة إلى أدل وضع على القوة والفراغة فإن القائم قد يقوم لشغل والقاعد قد يقعد لهم . وأما المتكئ فلا يتكئ إلا عند الفراغ والقدرة لأن المريض لا يقدر على الإتكاء ، وإنما يكون مضطجعا أو مستلقيا والأرائك جمع أريكة . وهي السرير الذي عليه الفرش وهو تحت الحجلات فيكون مرئيا هو وما فوقه وقوله : { لهم فيها فاكهة } إشارة إلى أن لا جوع هناك ، وليس الأكل لدفع ألم الجوع ، وإنما مأكولهم فاكهة ، ولو كان لحما طريا ، لا يقال قوله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون } يدل على التغاير وصدق الشهوة وهو الجوع لأنا نقول قوله : { مما يشتهون } يؤكد معنى عدم الألم لأن أكل الشيء قد يكون للتداوي من غير شهوة فقال مما يشتهون لأن لحم الطير في الدنيا يؤكل في حالتين إحداهما : حالة التنعم والثانية : حالة ضعف المعدة وحينئذ لا يأكل لحم طير يشتهيه ، وإنما يأكل ما يوافقه ويأمره به الطبيب ، وأما أنه يدل على التغاير ، فنقول مسلم ذلك لأن الخاص يخالف العام ، على أن ذلك لا يقدح في غرضنا ، لأنا نقول إنما اختار من أنواع المأكول الفاكهة في هذا الموضع لأنها أدل على التنعم والتلذذ وعدم الجوع والتنكير لبيان الكمال ، وقد ذكرناه مرارا وقوله : { لهم فيها فاكهة } ولم يقل يأكلون ، إشارة إلى كون زمام الاختيار بيدهم وكونهم مالكين وقادرين وقوله : { ولهم ما يدعون } فيه وجوه : أحدها لهم فيها ما يدعون لأنفسهم أي دعاؤهم مستجاب ، وحينئذ يكون هذا افتعالا بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحيل ، وعلى هذا فليس معناه أنهم يدعون لأنفسهم دعاء فيستجاب دعاؤهم بعد الطلب بل معناه ولهم ما يدعون لأنفسهم أي ذلك لهم فلا حاجة لهم إلى الدعاء والطلب ، كما أن الملك إذا طلب منه مملوكه شيئا يقول لك ذلك فيفهم منه تارة أن طلبك مجاب وأن هذا أمر هين بأن تعطي ما طلبت ، ويفهم تارة منه الرد وبيان أن ذلك لك حاصل فلم تطلبه فقال تعالى : ولهم ما يدعون ويطلبون فلا طلب لهم وتقريره هو أن يكون ما يدعون بمعنى ما يصح أن يطلب ويدعى يعني كل ما يصح أن يطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب ، أو نقول المراد الطلب والإجابة وذلك لأن الطلب من الله أيضا فيه لذة فلو قطع الله الأسباب بينهم وبينه لما كان يطيب لهم فأبقى أشياء يعطيهم إياها عند الطلب ليكون لهم عند الطلب لذة وعند العطاء ، فإن كون المملوك بحيث يتمكن من أن يخاطب الملك في حوائجه منصب عظيم ، والملك الجبار قد يدفع حوائج المماليك بأسرها قصدا منه لئلا يخاطب الثاني : ما يدعون ما يتداعون وحينئذ يكون افتعالا بمعنى التفاعل كالاقتتال بمعنى التقاتل ، ومعناه ما ذكرناه أن كل ما يصح أن يدعو أحد صاحبه إليه أو يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم الثالث : ما يتمنونه الرابع : بمعنى الدعوى ومعناه حينئذ أنهم كانوا يدعون في الدنيا أن لهم الله وهو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم .

فقال لهم في الجنة ما يدعون به في الدنيا ، فتكون الحكاية محكية في الدنيا ، كأنه يقول في يومنا هذا لكن أيها المؤمنون غدا ما تدعون اليوم ، لا يقال بأن قوله : { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * هم وأزواجهم في ظلال } يدل على أن القول يوم القيامة لأنا نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما : أن قوله : { هم } مبتدأ { وأزواجهم } عطف عليهم فيحتمل أن يكون هذا الكلام في يومنا هذا يخبرنا أن المؤمن وأزواجه في ظلال غدا وله ما يدعيه والجواب الثاني : وهو أولى هو أن نقول : معناه لهم ما يدعون أي ما كانوا يدعون . لا يقال بأنه إضمار حيث لا ضرورة وإنه غير جائز لأنا نقول على ما ذكرنا يبقى الادعاء مستعملا في معناه المشهور لأن الدعاء هو الإتيان بالدعوى وإنما قلنا إن هذا أولى لأن قوله : { سلام قولا من رب رحيم } هو في دار الآخرة وهو كالتفسير لقوله : { ما يدعون } ولأن قوله : { ما يدعون } مذكور بين جمل كلها في الآخرة فما يدعون أيضا ينبغي أن يكون في الآخرة وفي الآخرة لا يبقى دعوى وبينة لظهور الأمور والفصل بين أهل الثبور والحبور .