مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا} (166)

قوله تعالى { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا }

وفي الآية مسألتان :

المسألة الأولى : اعلم أن قوله { لكن } لا يبتدأ به لأنه استدراك على ما سبق ، وفي ذلك المستدرك قولان : الأول : أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قوله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } وهذا الكلام يتضمن أن هذا القرآن ليس كتابا نازلا عليهم من السماء فكأنه قيل : إنهم وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليه من السماء لكن الله يشهد بأنه نازل عليه من السماء . الثاني : أنه تعالى لما قال { إنا أوحينا إليك } قال القوم : نحن لا نشهد لك بذلك ، فنزل { لكن الله يشهد } .

المسألة الثانية : شهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته ، فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقا ، ولما كانت شهادته إنما عرفت بواسطة إنزال القرآن لا جرم قال { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك .

ثم قال تعالى : { أنزله بعلمه } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : أنه تعالى لما قال : { يشهد بما أنزل إليك } بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة ، فصار قوله { أنزله بعلمه } جاريا مجرى قول القائل : كتبت بالقلم وقطعت بالسكين ، والمراد من قوله { أنزله بعلمه } وصف القرآن بغاية الحسن ونهاية الكمال ، وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل والعلم إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره : إنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله ، يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب . فيدل ذلك على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن ، فكذا هاهنا والله أعلم .

المسألة الثانية : قال أصحابنا : دلت الآية على أن لله تعالى علما ، وذلك لأنها تدل على إثبات علم الله تعالى ، ولو كان علمه نفس ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو محال .

ثم قال : { والملائكة يشهدون } وإنما تعرف شهادة الملائكة له بذلك لأن ظهور المعجز على يده يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة ، وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة لا محالة بذلك لما ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه بالقول ، والمقصود كأنه قيل : يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك ، وملائكة السموات السبع يصدقونك في ذلك ، ومن صدقه رب العالمين وملائكة العرش والكرسي والسماوات السبع أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس ، وهم هؤلاء اليهود .

ثم قال تعالى : { وكفى بالله شهيدا } والمعنى وكفى الله شهيدا ، وقد سبق الكلام في مثل هذا .