روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا} (166)

{ لكن الله يَشْهَدُ } بتخفيف النون ورفع الجلالة . وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة ، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله كأنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ النساء : 163 ] الخ قيل : إنهم لا يشهدون لكن الله يشهد . وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد ، وقيل : إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم ، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة الله تعالى { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } أي بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن ، فالجار والمجرور متعلق بيشهد والباء صلة والمشهود به هو الحقية ، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك ، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم ، وأخرج البيهقي في «الدلائل » وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لهم : إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله فقالوا : ما نعلم ذلك فنزلت : { لكن الله يَشْهَدُ } " وفي رواية ابن جرير عنه «أنه لما نزل { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ النساء : 163 ] قالوا : ما نشهد لك فنزل { لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } ، وقرىء { أَنَزلَ } على البناء للمفعول .

{ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } ذكر فيه أربعة أوجه : الأول : أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، واختاره جماعة من المفسرين ، والثاني : أن يكون المعنى أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه ، واختاره الطبرسي والثالث : أن يكون المعنى أنزله بما علم من مصالح العباد مشتملاً عليه ، والرابع : أن يكون المعنى أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة ، والعلم على الوجه الأول قيل : بمعنى المعلوم ، والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم مجازاً عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدري ، والباء للملابسة ويكون تأليفه بياناً لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره ، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال : فعله بعلمه إذا كان متقناً وعلى ما ينبغي ، فيكون وصفاً للقرآن بكمال الحسن والبلاغة ، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه ، أو هو في الثالث بمعنى المعلوم ، والظرف حال من الفاعل أو المفعول ، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد ، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل ، وعلى الثالث من المفعول ، وجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً مطلقاً أي إنزالاً متلبساً بعلمه ، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري ، وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة ، وقيل : إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير لأنزل إليك لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص ، وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ ، والظرف حال من الفاعل ، ويكون { أَنزَلَهُ } تكريراً ليعلق به ما علق أو كما قيل ، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا مساس له بهذا المقام ، وقيل : إن فيه تعظيماً لأمر القرآن بحفظه من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضاً من شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضاً ، وقرىء نزله .

{ والملئكة يَشْهَدُونَ } أيضاً بما شهد الله تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة ، والجملة عطف على ما قبلها ، وقيل : حال من مفعول { أَنزَلَهُ } أي أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته ، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلى الله عليه وسلم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر ، وأياً مّا كان فيشهدون من الشهادة ، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ { وكفى بالله شَهِيداً } على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ لكن الله يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } لتجليه فيه سبحانه { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } أي متلبساً بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض . ومن هنا علم صلى الله عليه وسلم ما كان وما هو كائن { والملئكة } هم أصحاب النفوس القدسية { يَشْهَدُونَ } أيضاً لعدم احتجابهم { وكفى بالله شَهِيداً } [ النساء : 166 ] لأنه الجامع ولاموجود غيره ، والله تعالى الموفق للصواب .