مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا } .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالإيمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك ، ولقائل أن يقول : كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته ، حتى يكون إيمانهم استدلاليا ، فلما أمرهم بذلك الإيمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالإيمان على سبيل التقليد .

والجواب عنه : أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب ، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة . ألا ترى أنه قال في الآية الأولى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } ولم يقل : ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب ، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة ، ، فلما قال في هذه الآية : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة ، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل ، ولهذا قال تعالى : { مصدقا لما معكم } أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد ، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزما ، وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك .

المسألة الثانية : الطمس : المحو ، تقول العرب في وصف المفازة ، إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس ، وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله ، وطمست الريح الأثر إذا محته ، وطمست الكتاب محوته ، وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين : أحدهما : حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه : والثاني : حمل اللفظ على مجازه .

أما القول الأول : فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها ، فإن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس ، فإذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا ، ومعنى قوله : { فنردها على أدبارها } رد الوجوه إلى ناحية القفا ، وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة ، لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة ، فإن هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه ، ومما يقرره قوله تعالى : { وأما من أوتى كتابه وراء ظهره } فإنه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب من وراء ظهورهم ، لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان .

فأما القول الثاني : فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ، ثم ذكروا فيه وجوها : الأول : قال الحسن : المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها ، أي على ضلالتها ، والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ، ونظيره قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ، ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، فقد أمه عالم المعقولات ، ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم : { ناكسو رؤوسهم } . الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير ، وبالوجوه : رؤساؤهم ووجهاؤهم ، والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والإدبار والمذلة . الثالث : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى ، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وإريحاء من أرض الشام ، كما جاؤا منها بدءا ، وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين : أحدهما : تقبيح صورتهم يقال : طمس الله صورته كقوله : قبح الله وجهه ، والثاني : إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها .

فإن قيل : إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال البتة ، وإن فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه : الأول : أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه ، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فإنه قال : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله : { أو نلعنهم } وظاهره ليس هو المسخ . الثاني : قوله تعالى : { آمنوا } تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم ، فلزم أن يكون قوله : { من قبل أن نطمس وجوها } واقعا في الآخرة ، فصار التقدير : آمنوا من قبل أن يجئ وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت . الثالث : أنا قد بينا أن قوله : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } خطاب مع جميع علمائهم ، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالإيمان ، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبد الله بن سلام وجمع كثير من أصحابه ، ففات المشروط بفوات الشرط ، ويقال : لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم ، وقال : يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي . الرابع : أنه تعالى لم يقل : من قبل أن نطمس وجوهكم ، بل قال : { من قبل أن نطمس وجوها } وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة ، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيانهم ، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله : { أو نلعنهم } فذكرهم على سبيل المغايبة ، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب ، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه .

ثم قال تعالى : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } قال مقاتل وغيره : نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم . وقال أكثر المحققين : الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } ففصل تعالى ههنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : إلى من يرجع الضمير في قوله : { أو نلعنهم } .

الجواب : إلى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه ، لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو يرجع إلى الذين أوتوا على طريقة الالتفات .

السؤال الثاني : قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلا بد وأن يتحدا .

والجواب : أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه .

السؤال الثالث : قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } خطاب مشافهة ، وقوله : { أو نلعنهم } خطاب مغايبة ، فكيف يليق أحدهما بالآخر ؟

الجواب : منهم من حمل ذلك على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } ومنهم من قال : هذا تنبيه على أن التهديد حاصل في غيرهم ممن يكذبون من أبناء جنسهم . وعندي فيه احتمال آخر : وهو أن اللعن هو الطرد والإبعاد ، وذكر البعيد لا يكون إلا بالمغايبة ، فلما لعنهم ذكرهم بعبارة الغيبة .

ثم قال تعالى : { وكان أمر الله مفعولا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال ابن عباس : يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره ، على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله ، كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله : هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد . وإنما قال : { وكان } إخبارا عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بإنزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة ، فكأنه قيل لهم : أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة ، فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد ، والله أعلم .

المسألة الثانية : احتج الجبائي بهذه الآية على أن كلام الله محدث فقال : قوله : { وكان أمر الله مفعولا } يقتضي أن أمره مفعول ، والمخلوق والمصنوع والمفعول واحد ، فدل هذا على أن أمر الله مخلوق مصنوع ، وهذا في غاية السقوط لأن الأمر في اللغة جاء بمعنى الشأن والطريقة والفعل قال تعالى : { وما أمر فرعون برشيد } والمراد ههنا ذاك .