اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ [ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } ]{[8173]}

وذلك أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كَلَّم أحْبَارَ اليَهُود : عَبْد اللَّهِ بن صوريا ، وكَعْبَ بن الأشْرَف{[8174]} ، فقال : يا مَعْشَر اليَهُود ، اتَّقُوا اللَّه وأسْلِمُوا ، والله إنكُم تَعْلَمُون أن الَّذِي جِئْتُم به الحَقّ ، قالوا : ما نَعْرِفُ ذلك ، وأصَرُّوا على الكُفْرِ ؛ فَنَزَلَت هذه الآية .

فإن قيل : كان يَجِبُ أن يأمُرهُم بالنَّظَرِ والتفكُّر في الدَّلاَئِل ، حتى يكُون إيمانُهُم اسْتِدْلاليّاً ، فلما أمرهُم بالإيمان ابْتِداءً ؛ فكأنه - تعالى - أمَرَهُم بالإيمَانِ على سَبِيل التَّقْليد .

فالجوَابُ : أن هذا خِطابٌ مع أهْلِ الكتاب ، وكانُوا عَالِمين بِهَا في التَّوْرَاة ؛ ولهذا قال : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي : من الآيَاتِ الموْجُودَة فِي التَّوْرَاة الدَّالة على نُبُوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام - .

قوله : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ } متعلِّق بالأمْرِ في قوله : { آمِنُواْ } ونطمِسُ يكون متعدِّياً ومنه هذه الآية ؛ ومثلها : { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ } [ المرسلات : 8 ] لبنائه للمَفْعُول من غير [ حَرْف ]{[8175]} جَرٍّ ، ويكُون لازِماً ، يقال : طَمَسَ المَطَرُ الأعلامَ ، وطَمَست الأعْلامُ .

قال كعب : [ البسيط ]

مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذَّفْرَى إذَا عَرِقَتْ *** عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ{[8176]}

وقرأ الجُمْهُور : { نَّطْمِسَ } بكسر الميم ، وأبو رَجَاء{[8177]} بِضَمِّها ، وهما لُغَتَان في المُضَارِع ، وقدَّر بعضهم مُضافاً أي : " عيون وجوه " ويقوَّيه{[8178]} أن الطَّمْس للأعْيُن{[8179]} ؛ قال - تعالى - : { لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ } [ يس : 66 ] .

فصل في معنى الطمس والخلاف فيه

الطَمْسُ : المَحْوُ ؛ تقول العرب في وصف المفَازَةِ : إنها طَامِسَةُ الأعلامِ ، وطَمس الطَّرِيق إذا دَرَسَ ، وقد طَمَسَ اللَّه على بَصَرِه ؛ إذا أزَالَهُ ، وَطَمَست الرِّيحُ الأثَر : إذا مَحَتْهُ ، وطَمَسْت الكِتَاب : إذا مَحَوْتَه ، واخْتَلَفُوا في المراد بالطَّمْسِ هُنَا .

فقال ابن عباس : نَجْعَلُهَا كَخُفِّ البَعِير{[8180]} .

وقال قتادة والضَّحَّاك : نُعْميها{[8181]} .

وقيل : نمحو آثارهَا وما فيها من أعْيُن{[8182]} ، وأنْف ، وَفَم ، وحَاجِب .

وقيل : نجعل الوُجُوه منابِتَ الشَّعَر ، كوُجُوهِ القِرَدَةِ{[8183]} ، وقيل : يجعلُ عَيْنَيْهِ في القَفَا ؛ فَيَمْشِي القَهْقَرَى ، وقيلَ : المرادُ ب " الوجوهِ " : الوجَهَاءُ ، والرؤسَاءُ{[8184]} .

ورُوِيَ : أنَّ عبد الله بْنَ سلامٍ ، ولمّا سَمِعَ هذه الآية ؛ جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يأتِيَ أهْلُهُ ، ويدَهُ على وَجْهِهِ ، وأسْلَم ، وقال : يا رسُولَ الله ، ما كنتُ أرَى أنْ أصِلَ إليْك ؛ حَتَّى يتحولَ وَجْهِي إلى قَفَايَ{[8185]} ؛ وكذلك كعبُ الأحْبَارِ ، لَمَّا سَمِعَ هذه الآيةَ ، أسْلَمَ في زَمَنِ عُمَرَ ، فقال : يا رَبِّ ، آمَنْتُ ، يا رَبِّ ، أسلمتُ ؛ مخافَةَ أنْ يُصِيبَه - وعيدُ هذه - الآية{[8186]} .

فإن قيلَ : قد أوعدهم بالطمْسِ إنْ لم يُؤمِنُوا ، ولَمْ يَفْعَلْ ذلك بِهم ؟

فالجوابُ : أنَّ الوَعِيدَ باقٍ ، ويكونُ طَمْسٌ ، ومَسخٌ في اليهود ، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ ، وقيل : إنَّه جَعَل الوِعيدَ : إمَّا الطمسَ ، وإمَّا اللَّعْنَ ، وقد فَعَلَ أحَدَهُمَا ، وهو اللَّعْنُ .

وقيل : كان هذا وَعِيداً بشرطٍ فلما أسْلَمَ عبد الله بن سلام ، وأصحابُه ، رفع ذلك عن الباقينَ ، وقيل : أرَادَ بِهِ في القيامةِ .

وقال مُجَاهِدٌ : أراد بقوله { نَّطْمِسَ وُجُوهاً } ، أيْ : يترُكهُم في الضَّلاَلَة ، فيكون المرادُ طَمْسَ وَجْهِ القَلْبِ ، والردَّ عن الهُدَى{[8187]} .

وقال ابنُ زَيْدٍ : نَمْحُو آثَارَهُمْ مِنْ وجُوهِهِم ، ونَوَاصيهم التي هم بها{[8188]} وقد لحقَ اليهودَ ، ومضى ، وتأويل ذلك في إجْلاءِ قُُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ إلى الشَّام ، فرد اللَّهُ وُجُوهَهُم على أدْبَارِهم ، حين عادوا إلى أذْرِعَاتٍ ، وأريحاء من الشامِ .

قوله : { عَلَى أَدْبَارِهَا } فيه وَجْهَانِ :

أظهرهُمَا : أنَّهُ متعلقٌ ب { فَنَرُدَّهَا } .

والثَّاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من المفعولِ في { فَنَرُدَّهَا } ؛ قَالَهُ أبُو الْبَقَاءِ{[8189]} .

قوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } عطفٌ على نَطْمِس ، والضميرُ في " نلعنهم " يَعُودُ على الوُجُوهِ ، على حَذْفِ مُضَاف إلَيْهِ : أيْ : وُجُوه قَوْم ، أوْ عَلَى أن يُرَادَ بِهمُ : الوُجَهَاءَ والرؤساءَ{[8190]} ، أو يعودَ على الَّذين أوتُوا الكِتَابَ ، ويكونُ ذلك التِفاتاً مِنْ خَطَابٍ إلى غَيْبةٍ ، وفيه اسْتِدْعاؤهُم للإيمانِ ؛ حيثُ لم يُوَاجِهْهُمْ باللَّعْنَةِ بَعْدَ أن شَرَّفَهُم بكوْنِهم مِنْ أهْل الكتابِ .

فصل في المراد باللعن

قال مُقَاتِلٌ ، وغَيْرهُ : المرادُ باللَّعْنِ : مَسْخُهُمْ قِرَدَةً ، وخَنَازِير{[8191]} ، فإنْ قيل : قد كان اللّعْنُ حَاصِلاً قبل هذا الوعيد{[8192]} .

فالجوابُ : أن هذه اللَّعْنَةَ بعد الوعيد ، أزْيَدُ تأثيراً في الخِزْيِ ، وقيل : المرادُ بهذا اللَّعْن ، الطَّرْدُ ، والإبْعَادُ [ و ]{[8193]} قولهُ { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ } : أمرٌ واحدٌ أُريدَ به الأمُورُ ، وقيل : هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به ، أيْ : مَأمُوره ، أي{[8194]} : ما أوْجَدَه كائِنٌ لا مَحَالَة .

قال ابنُ عبَّاس{[8195]} : يريدُ لا رَادَّ لِحُكْمَه ، ولا ناقِضَ لأمْرِه ، وعلى [ مَعْنَى ]{[8196]} أنه لا يَبْعُدُ عليه شَيءٌ [ يُريدُ ]{[8197]} أن يَفْعَلهُ ، وإنَّما قال : { وَكَانَ } إخباراً عن جريان عادةِ اللَّهِ في الأنْبِياءِ المتقدِّمِينَ ، أنَّه مَتَى أخْبرهم بإنْزَال العَذَابِ عليْهم فعل ذلك لا مَحَالة .

فصل : دفع شبهة الجبائي

احتجَّ الجُبَّائِيُّ بهذه الآيةِ على أنَّ كلامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ{[8198]} ؛ لأنَّ المفعولَ مَخْلُوقٌ .

فالجوابُ : أنَّ الأمْرَ في اللُّغَةِ ، جاءَ بمعنى الشَّأنِ ، والطَّريقَةِ ، والفِعْلِ ؛ قال تعالى :

{ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] .


[8173]:سقط في ب.
[8174]:في أ: أسد.
[8175]:سقط في أ.
[8176]:تقدم.
[8177]:ينظر: البحر المحيط 3/278، والدر المصون 2/375.
[8178]:في أ: ويقولون.
[8179]:في أ: للعين.
[8180]:انظر: البحر المحيط (3/278).
[8181]:المصدر السابق.
[8182]:في ب: عين.
[8183]:انظر تفسير "البحر المحيط" لأبي حيان (3/278).
[8184]:في أ: الوجه والرؤس.
[8185]:انظر تفسير ابن عباس ص 71، غرائب النيسابوري (5/64).
[8186]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/446) عن عيسى بن المغيرة.
[8187]:انظر البحر المحيط (3/278).
[8188]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/442 ـ 443).
[8189]:ينظر: الإملاء 1/183.
[8190]:في أ: الوجه والرأس.
[8191]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" عن الضحاك (2/301) وعزاه لعبد بن حميد.
[8192]:في أ: الوعد.
[8193]:سقط في ب.
[8194]:في أ: إلى.
[8195]:ينظر: تفسير الرازي 10/99.
[8196]:سقط في أ.
[8197]:سقط في أ.
[8198]:في أ: يحدث.