غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

41

ثم زجرهم عن كفر الجحود والعناد بقوله : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } الآية . والطمس المحو . يقال : طريق طامس ومطموس ، ومفازة طامسة الأعلام ، وطمست الكتاب محوته . وهو في الآية حقيقة أو مجاز قولان .

والمعنى على الأول محو تخطيط صورها وأشكالها من عين وحاجب وأنف وفم . والفاء في { فنردها على أدبارها } إما للتسبيب أي فنجعل الوجوه بسبب هذا الطمس على هيئة أقفائها مطموسة مثلها ، لأن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس والتخاطيط ، فإذا أزيلت ومحيت لم يبق فرق بينها وبين القفا . وإما للتعقيب على أن العقوبة شيئان : إحداهما عقيب الأخرى الطمس ، ثم نكس الوجه إلى خلق والأقفاء إلى قدام . وإنما يكون هذا عقوبة لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة كما قال في حق أهل النار

{ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره }[ الانشقاق :10 ] على أن وجوههم مردودة إلى أقفائهم فتدرك الكتابة وتقرأ من هناك . وأما المعنى على القول الثاني فعن الحسن : نطمسها عن الهدى ونردها بالخذلان على أدبارها أي على ضلالاتها وشبهاتها . وذلك أن المتوجه إلى عالم الحس معرض عن عالم العقل ، وبقدر الإقبال على ذاك يحصل الإدبار عن هذا . وقال عبد الرحمن بن زيد : نردهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام . يريد إجلاء بني قريظة والنضير . والطمس على هذا إما تقبيح الوجوه وإما إزالة آثارهم عن ديار العرب . وقيل : الطمس القلب والتغيير . والمراد بالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وأدبارهم . والضمير في قوله : { أو نلعنهم } إما للوجوه إن أريد بها الوجهاء ، وإما لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم ، أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات . فإن قيل : فأين وقوع الوعيد ؟ فالجواب أنه مشروط بعدم إيمان جميعهم ولكنه قد آمن ناس من علمائهم كعبد الله بن سلام وأصحابه . حكي أنه لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله ، ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي . وأيضاً إنه ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل إياه أو اللعن . فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين ، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان . واللعن الموعود ظاهره اللعن المتعارف لا المسخ . وقيل : هو منتظر ولهذا قيل : { وجوهاً } منكرة دون " وجوهكم " ليشمل وجوهاً غير المخاطبين من أبناء جنسهم ، ولا بد من مسخ وطمس لليهود قبل يوم القيامة . وقيل : إنّ قوله : { آمنوا } تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله : { من قبل أن نطمس وجوهاً } واقعاً في الآخرة . فالتقدير : آمنوا من قبل أن يجيء الوقت الذي نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت { وكان أمر الله مفعولاً } لأنه لا راد لحكمه ولا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله ، وهذا كما يقال في الشيء الذي لا يشك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد ، فإذا حكم بإنزال العذاب على قوم فعل ذلك ألبتة .

والمراد بالأمر الشأن والفعل الذي تعلق إرادته به لا الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام ، فلا يصح استدلال الجبائي بالآية على أن كلامه تعالى مفعول أي مخلوق .

/خ57