الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

قوله : ( يَأَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا ) الآية [ 47 ] .

هذا خطاب لليهود الذين كانوا حوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم الله تعالى أن يؤمنوا بالقرآن الذي هو مصدق للتوراة ومحقق لها( {[12591]} ) .

وروي أنها نزلت في نفر من اليهود ، خاطبهم النبي عليه السلام ، ودعاهم إلى الإسلام وقال لهم : والله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به حق ، فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد فتوعدهم الله جل ذكره بقوله : يَأَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا )( {[12592]} ) .

وروي أن عبد الله بن سلام( {[12593]} ) كان بالشام ، فأقبل حتى أتى النبي عليه السلام قبل أن يدخل على أهله فأسلم – وقال : لقد خفت ، وأنا مقبل ألا( {[12594]} ) أصل إليك حتى يصير وجهي خلفي( {[12595]} ) . وقيل : معنى ( مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنََرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) أي : آمنوا من قبل أن تمحق صورة الوجوه حتى تصير كالأقفية تذهب بالأنف والعين والحاجب وغير ذلك من أدوات الوجه ويصير كالقفا( {[12596]} ) .

وقيل المعنى : ( مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ ) أبصار الوجوه فتصير لا تنظر شيئاً كالقفا .

ومعنى ( فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) تحول وجوهها قبل ظهورها .

وقال مجاهد والحسن : المعنى من قبل أن نعمي قوماً عن الحق فنردهم على أدبارهم في الصلاة والكفر( {[12597]} ) .

وقيل : المعنى( {[12598]} ) : ( مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ) أي : نمحو آثارها ، فنردها على أدبارها أي : نجعلها منابت للشعر كوجوه القردة . واختار الطبري قول ابن عباس أن المعنى من قبل أن نعمي أبصارها ، فنردها في موضع القفى ، وتصير الوجوه في موضع القفى فيمشي القهقرى ، ولا معنى لقول من قال : معناه أن نعمي قوماً فنردهم عن الحق إلى الضلالة لأن المخاطبين بهذا هم اليهود ، وهم ضالون كافرون ، فلا معنى لتوعدهم أن يجعلوا ضالين كافرين وهم كذلك( {[12599]} ) . وقد قيل( {[12600]} ) : معناه من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها يريد مواضعهم وترددهم إلى الشام وهو بعيد ، والطمس في اللغة العفو والدثور( {[12601]} ) .

وقال مالك : كان أول إسلام كعب( {[12602]} ) أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ ( يَأَيُّهَا الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً ) الآية فوضع كعب يده على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته ، فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي( {[12603]} ) .

قوله : ( أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ) معناه أن نخزيهم ، فنجعلهم قردة كما أخزينا أصحاب السبت الذي اعتدوا فيه( {[12604]} ) .

قاله قتادة والحسن والسدي وابن زيد( {[12605]} ) ، وهذا من الرجوع إلى الغيبة بعد المخاطبة مثل ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ )( {[12606]} ) .

وقد قيل : معناه : أونلعن أصحاب الوجوه ، فلا يكون فيه خروج من خطاب إلى غيبة على هذا( {[12607]} ) .

قوله : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ) أي : كائناً موجوداً ، والأمر في هذا الموضع : المأمور ، وسمّي بالأمر لأنه عن الأمر كان ( فمعناه )( {[12608]} ) : ولم يزل مأمور الله موجوداً( {[12609]} ) كائناً إذا أراده وجده لا إله إلا هو ، فهو مصدر وقع موقع المفعول كما قال ( هَذَا خَلْقُ اللَّهِ )( {[12610]} ) أي : مخلوقه .


[12591]:- انظر: جامع البيان 5/121.
[12592]:- انظر: سيرة ابن هشام 1/570، وجامع البيان 5/124.
[12593]:- هو أبو يوسف عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائلي توفي 43 هـ صحابي أسلم عند قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فسماه عبد الله بدل الحصين. انظر: صفة الصفوة 1/718.
[12594]:- (أ): إلى وهو خطأ.
[12595]:- انظر: قصة إسلامه في سيرة ابن هشام 1/516.
[12596]:- انظر: معاني الزجاج 2/59.
[12597]:- انظر: جامع البيان 5/122.
[12598]:- انظر: جامع البيان 5/122، ومعاني الزجاج 2/59.
[12599]:- انظر: المصدر السابق.
[12600]:- عزاه الطبري لابن زيد، انظر: المصدر السابق.
[12601]:- انظر: مجاز القرآن وتفسير الغريب 128، والمفردات 316.
[12602]:- هو كعب الأحبار وقد تقدمت ترجمته.
[12603]:- انظر: جامع البيان 5/124، والإصابة 3/297.
[12604]:- يشير إلى قوله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) البقرة 65.
[12605]:- انظر: جامع البيان 5/124.
[12606]:- يونس آية 22.
[12607]:- انظر: هذا التوجيه في معاني الزجاج 2/59.
[12608]:- ساقط من (أ) (ج).
[12609]:- (أ) و(ج): موجود وهو خطأ.
[12610]:- لقمان آية 10.