فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ( 47 ) }

{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب } الخطاب لليهود ، ولم يقل هنا أوتوا نصيبا من الكتاب لأن المقصود فيما سبق بيان خطئهم في التحريف ، وهو إنما وقع في بعض التوراة والمقصود هنا بيان خطئهم في عدم إيمانهم بالقرآن وهو مصدق لجميع التوراة فناسب التعبير هنا بإيتاهم الكتاب { آمنوا بما نزلنا } يعني القرآن { مصدقا لما معكم } يعني التوراة ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقا لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش .

وأما من يتراءى من مخالفته لها في جزيئات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليس بمخالفة في الحقيقة ، بل هو عين الموافقة من حيث أن الكلام منها حق بالإضافة إلى عصره ، متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ) .

ثم قرن بهذا الأمر الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وأكده فقال { من قبل أن نطمس وجوها } أصل الطمس استئصال أثر الشيء بالمحو وإزالة الأعلام ، ومنه { فإذا النجوم طمست } يقال طمس الأثر أي محاه كله ومنه { ربنا اطمس على أموالهم } أي أهلكها ، ويقال مطموس البصر ومنه { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } أي أعميناهم .

واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين وهو محو تخطيط صور الوجوه ، قال ابن عباس يجعلها كخف البعير ، وقيل نعيمها فيكون المراد بالوجه العين ، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق ، فذهب إلى الأول طائفة ، وإلى الآخر آخرون ، وفي تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب ، وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان .

وعلى الأول فالمراد بقوله { فنردها على أدبارها } نجعلها أقفاء أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا . وقيل أنه بعد الطمس يردها إلى مواضع القفا والقفا إلى مواضعها ، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله { فنردها على أدبارها } .

فإن قيل كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ، فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين ، وقال المبرد الوعيد باق منتظر ، وقال لابد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة ، وقيل هو مختص بيوم القيامة ، وقيل المراد طمس القلب والبصيرة وقيل حيث جاؤوا ، والأول أولى .

والضمير في { أو نلعنهم } عائد إلى أصحاب الوجوه { كما لعنا أصحاب السبت } وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير ، وقيل المراد نفس اللعنة ، وهم ملعونون بكل لسان ، والمراد وقوع أحد الأمرين إما الطمس أو اللعن ، وقد وقع اللعن ، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت { وكان أمر الله مفعولا } أي كائنا موجودا لا محالة إن لم يؤمنوا أو يراد بالأمر المأمور ، والمعنى أنه متى أراده كان كقوله { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } .