الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا} (47)

{ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أي نمحو تخطيط صورها ، من عين وحاجب وأنف وفم { فَنَرُدَّهَا على أدبارها } فنجعلها على هيئة أدبارها ، وهي الأقفاء مطموسة مثلها . والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين : أحدهما عقيب الآخر ، ردها على أدبارها بعد طمسها ؛ فالمعنى أن نطمس وجوهاً فننكسها ، الوجوه إلى خلف ، والأقفاء إلى قدّام . ووجه آخر : وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير ، كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة . وبالوجوه ، رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم ، فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم أو نردهم إلى حيث جاؤا منه . وهي : أذرعات الشام ، يريد : إجلاء بني النضير .

فإن قلت : لمن الراجع في قوله : ( أو نلعنهم ) ؟ قلت : للوجوه إن أريد الوجهاء ، أو لأصحاب الوجوه . لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع إلى ( الذين أوتوا الكتاب ) على طريقة الالتفات { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } أو نجزيهم بالمسخ ، كما مسخنا أصحاب السبت .

فإن قلت : فأين وقوع الوعيد . قلت : هو مشروط بالإيمان . وقد آمن منهم ناس . وقيل : هو منتظر ، ولا بدّ من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة ، ولأن الله عز وجلّ أوعدهم بأحد الأمرين ، بطمس وجوه منهم ، أو بلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم ، أو إجلائهم إلى الشام ، فقد كان أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن . فإنهم ملعونون بكل لسان ، والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ ألا ترى إلى قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } [ المائدة : 60 ] { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } فلا بدّ أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا .