مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا} (63)

ثم قال تعالى : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } والمعنى أنه لا يعلم ما في قلوبهم من النفاق والغيظ والعداوة إلا الله .

ثم قال تعالى : { فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } واعلم أنه تعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم بثلاثة أشياء : الأول : قوله : { فأعرض عنهم } وهذا يفيد أمرين أحدهما : أن لا يقبل منهم ذلك العذر ولا يغتر به ، فإن من لا يقبل عذر غيره ويستمر على سخطه قد يوصف بأنه معرض عنه غير ملتفت إليه . والثاني : أن هذا يجري مجرى أن يقول له : اكتف بالإعراض عنهم ولا تهتك سترهم ، ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم ، فإن من هتك ستر عدوه وأظهر له كونه عالما بما في قلبه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي بإظهار العداوة فيزداد الشر ، ولكن إذا تركه على حاله بقي في خوف ووجل فيقل الشر .

النوع الثاني : قوله تعالى : { وعظهم } والمراد أنه يزجرهم عن النفاق والمكر والكيد والحسد والكذب ويخوفهم بعقاب الآخرة ، كما قال تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } .

النوع الثالث : قوله تعالى : { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في قوله : { في أنفسهم } وجوه : الأول : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : وقل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعارا . الثاني : أن يكون التقدير : وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا ، وإن الله يعلم ما في قلوبكم فلا يغني عنكم إخفاؤه ، فطهروا قلوبكم من النفاق وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شرا من ذلك وأغلظ . الثالث : قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم على سبيل السر ، لأن النصيحة على الملأ تقريع وفي السر محض المنفعة .

المسألة الثانية : في الآية قولان : أحدهما : أن المراد بالوعظ التخويف بعقاب الآخرة ، والمراد بالقول البليغ التخويف بعقاب الدنيا ، وهو أن يقول لهم : إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله ، ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار ، وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الإيمان ، فإن واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر للكل بقاؤكم على الكفر ، وحينئذ يلزمكم السيف . الثاني : أن القول البليغ صفة للوعظ ، فأمر تعالى بالوعظ ، ثم أمر أن يكون ذلك الوعظ بالقول البليغ ، وهو أن يكون كلاما بليغا طويلا حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والترهيب والإحذار والإنذار والثواب والعقاب ، فإن الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب ، وإذا كان مختصرا ركيك اللفظ قليل المعنى لم يؤثر البتة في القلب .