مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }

فيه مسائل :

المسألة الأولى : في سبب نزول هذه الآية قولان : أحدهما : وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي : أن هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق ، فهذه الآية متصلة بما قبلها ، وهذا القول هو المختار عندي . والثاني : أنها مستأنفة نازلة في قصة أخرى ، وهو ما روي عن عروة بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في ماء يسقى به النخل ، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير : " اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك " فقال الأنصاري : لأجل أنه ابن عمتك ، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير : " اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر " .

واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة ، فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من المسامحة لأجله أمره النبي عليه الصلاة والسلام باستيفاء حقه على سبيل التمام ، وحمل خصمه على مر الحق .

المسألة الثانية : «لا » في قوله : «فلا وربك » فيه قولان : الأول : معناه فوربك ، كقوله : { فوربك لنسئلنهم أجمعين } و«لا » مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في { لئلا يعلم } لتأكيد وجوب العلم و { لا يؤمنون } جواب القسم . والثاني : أنها مفيدة ، وعلى هذا التقدير ذكر الواحدي فيه وجهين : الأول : أنه يفيد نفي أمر سبق ، والتقدير : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ، ثم استأنف القسم بقوله : { فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك } والثاني : أنها لتوكيد النفي الذي جاء فيما بعد ، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن .

المسألة الثالثة : يقال شجر يشجر شجورا وشجرا إذا اختلف واختلط ، وشاجره إذا نازعه وذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض عند المنازعة ، ومنه يقال لخشبات الهودج شجار ، لتداخل بعضها في بعض . قال أبو مسلم الأصفهاني : وهو مأخوذ عندي من التفاف الشجر ، فإن الشجر يتداخل بعض أغصانه في بعض ، وأما الحرج فهو الضيق . قال الواحدي : يقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه : حرج ، وجمعه حراج ، وأما التسليم فهو تفعيل يقال : سلم فلان أي عوفي ولم ينشب به نائبة ، وسلم هذا الشيء لفلان ، أي خلص له من غير منازع ، فإذا ثقلته بالتشديد فقلت : سلم له فمعناه أنه سلمه له وخلصه له ، هذا هو الأصل في اللغة ، وجميع استعمالات التسليم راجع إلى الأصل فقولهم : سلم عليه ، أي دعا له بأن يسلم ، وسلم إليه الوديعة ، أي دفعها إليه بلا منازعة ، وسلم إليه أي رضي بحكمه ، وسلم إلى فلان في كذا ، أي ترك منازعته فيه ، وسلم إلى الله أمره أي فوض إليه حكم نفسه ، على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرا ولا شركة ، وعلم أن المؤثر الصانع هو الله تعالى وحده لا شريك له .

المسألة الرابعة : اعلم أن قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون } قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط : أولها : قوله تعالى : { حتى يحكموك فيما شجر بينهم } وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا .

واعلم أن من يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بإرشاد النبي المعصوم قال : لأن قوله : { لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } تصريح بأنه لا يحصل لهم الإيمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما اختلفوا فيه ، ونرى أهل العلم مختلفين في صفات الله سبحانه وتعالى ، فمن معطل ومن مشبه ، ومن قدري ومن جبري ، فلزم بحكم هذه الآية أنه لا يحصل الإيمان إلا بحكمه وإرشاده وهدايته ، وحققوا ذلك بأن عقول أكثر الخلق ناقصة وغير وافية بإدراك هذه الحقائق ؟ وعقل النبي المعصوم كامل مشرق ، فإذا اتصل إشراق نوره بعقول الأمة قويت عقولهم وانقلبت من النقص إلى الكمال ، ومن الضعف إلى القوة ، فقدروا عند ذلك على معرفة هذه الأسرار الإلهية . والذي يؤكد ذلك أن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا جازمين متيقنين كاملي الإيمان والمعرفة ، والذين بعدوا عنه اضطربوا واختلفوا ، وهذه المذاهب ما تولدت إلا بعد زمان الصحابة والتابعين ، فثبت أن الأمر كما ذكرنا ، والتمسك بهذه الآية رأيته في كتب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، فيقال له : فهذا الاستدلال الذي ذكرته إنما استخرجته من عقلك ، فإذا كان عقول الأكثرين ناقصة فلعلك ذكرت هذه الاستدلال لنقصان عقلك ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب أن يشك في صحة مذهبك وصحة هذا الدليل الذي تمسكت به ، ولأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الإله ، فلو توقفت معرفة الإله على معرفة النبوة لزم الدور ، وهو محال .

الشرط الثاني : قوله : { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } قال الزجاج : لا تضيق صدورهم من أفضيتك .

واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب ، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر ، فليس المراد من الآية ذلك ، بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق .

الشرط الثالث : قوله تعالى : { ويسلموا تسليما } واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول ، فبين تعالى أنه كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب . فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر ، فقوله : { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } المراد به الانقياد في الباطن ، وقوله : { ويسلموا تسليما } المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم .

المسألة الخامسة : دلت الآية على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الخطأ في الفتوى وفي الأحكام ، لأنه تعالى أوجب الانقياد لحكمهم وبالغ في ذلك الإيجاب وبين أنه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب ، وذلك ينفي صدور الخطأ عنهم ، فهذا يدل على أن قوله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } وأن فتواه في أسارى بدر ، وأن قوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } وأن قوله : { عبس وتولى } كل ذلك محمول على الوجوه التي لخصناها في هذا الكتاب .

المسألة السادسة : من الفقهاء من تمسك بقوله تعالى : { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } على أن ظاهر الأمر للوجوب ، وهو ضعيف لأن القضاء هو الإلزام ، ولا نزاع في أنه للوجوب .

المسألة السابعة : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس ، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق ، وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره ، ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف ، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس ، وقوله : { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } مشعر بذلك لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس ، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ، ويسلم النص تسليما كليا ، وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف .

المسألة الثامنة : قالت المعتزلة : لو كانت الطاعات والمعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض ، وذلك لأن الرسول إذا قضى على إنسان بأنه ليس له أن يفعل الفلاني وجب على جميع المكلفين الرضا بذلك لأنه قضاء الرسول . والرضا بقضاء الرسول واجب لدلالة هذه الآية ، ثم لو أن ذلك الرجل فعل ذلك الفعل على خلاف فتوى الرسول ، فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكان ذلك الفعل بقضاء الله ، والرضا بقضاء الله واجب ، فيلزم أن يجب على المكلفين الرضا بذلك الفعل . لأنه قضاء الله ، فوجب أن يلزمهم الرضا بالفعل والترك معا ، وذلك محال .

والجواب : أن المراد من قضاء الرسول الفتوى المشروعة ، والمراد من قضاء الله التكوين والإيجاد ، وهما مفهومان متغايران ، فالجمع بينهما لا يفضي إلى التناقض .