قوله تعالى : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا }
المسألة الأولى : اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين : الأول : أن قوله : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } كلام وقع في البين ، وما قبل هذه الآية متصل بما بعدها هكذا : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ، يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ، ثم بعد ذلك يجيئونك ويحلفون بالله كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق ، وعلى هذا التقدير يكون النظم متصلا ، وتلك الآية وقعت في البين كالكلام الأجنبي ، وهذا يسمى اعتراضا ، وهو كقول الشاعر :
إن الثمانين وبلغتها *** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله : وبلغتها ، كلام أجنبي وقع في البين ، إلا أن هذا الكلام الأجنبي شرطه أن يكون له من بعض الوجوه تعلق بذلك المقصود كما في هذا البيت ، فإن قوله : بلغتها دعاء للمخاطب وتلطف في القول معه ، والآية أيضا كذلك ، لأن أول الآية وآخرها في شرح قبائح المنافقين وفضائحهم وأنواع كيدهم ومكرهم ، فإن الآية أخبرت بأنه تعالى حكى عنهم في أول الآية أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت مع أنهم أمروا بالكفر به ، ويصدون عن الرسول مع أنهم أمروا بطاعته ، فذكر بعد هذا ما يدل على شدة الأحوال عليهم بسبب هذه الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة فقال : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } أي فكيف حال تلك الشدة وحال تلك المصيبة ، فهذا تقرير هذا القول ، وهو قول الحسن البصري ، واختيار الواحدي من المتأخرين .
الوجه الثاني : أنه كلام متصل بما قبله ، وتقريره أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويفرون من الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الفرار دل ذلك على شدة نفرتهم من الحضور عند الرسول والقرب منه ، فلما ذكر ذلك قال : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } يعني إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا ، فكيف يكون حالهم في شدة الغم والحسرة إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ، ثم جاؤك شاؤا أم أبوا ويحلفون بالله على سبيل الكذب : أنا ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة ، والغرض من هذا الكلام بيان أن ما في قلبهم من النفرة عن الرسول لا غاية له ، سواء غابوا أم حضروا ، وسواء بعدوا أم قربوا ، ثم أنه تعالى أكد هذا المعنى بقوله : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } والمعنى أن من أراد المبالغة في شيء قال : هذا شيء لا يعلمه إلا الله ، يعني إنه لكثرته وقوته لا يقدر أحد على معرفته إلا الله تعالى ، ثم لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام شدة بغضهم ونهاية عداوتهم ونفرتهم أعلمه أنه كيف يعاملهم فقال : { فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } وهذا الكلام على ما قررناه منتظم حسن الاتساق لا حاجة فيه إلى شيء من الحذف والإضمار ، ومن طالع كتب التفسير علم أن المتقدمين والمتأخرين كيف اضطربوا فيه والله أعلم .
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير قوله : { أصابتهم مصيبة } وجوها : الأول : أن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام ، فهم جاؤا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فطالبوا عمر بدمه وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة ، وهذا اختيار الزجاج . الثاني : قال أبو علي الجبائي : المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ، وإنه يخصهم بمزيد الإذلال والطرد عن حضرته وهو قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } وقوله : { قل لن تخرجوا معي أبدا } وبالجملة فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم ، فكانت معدودة في مصائبهم ، وإنما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم ، وعني بقوله : { ثم جاؤك } أي وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون أنا ما أردنا بما كان منا من مداراة الكفار إلا الصلاح ، وكانوا في ذلك كاذبين لأنهم أضمروا خلاف ما أظهروه ، ولم يريدوا بذلك الإحسان الذي هو الصلاح . الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول ، بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه ، وإلى أن يظهروا له الإيمان به وإلى أن يحلفوا بأن مرادهم الإحسان والتوفيق . قال : ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا : كيف أنت إذا كان كذا وكذا ، ومثاله قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وقوله : { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } ثم أمره تعالى إذا كان منهم ذلك أن يعرض عنهم ويعظهم .
المسألة الثالثة : في تفسير الإحسان والتوفيق وجوه : الأول : معناه ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الإحسان إلى خصومنا واستدامة الاتفاق والائتلاف فيما بيننا ، وإنما كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم لأنهم لو كانوا عند الرسول لما قدروا على رفع صوت عند تقرير كلامهم ، ولما قدروا على التمرد من حكمه ، فإذن كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم . الثاني : أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أنه يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به الرسول . الثالث : أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله إلا أنك لا تحكم إلا بالحق المر ، وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر ، وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.