ثم قال : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } أي : من النِّفَاقِ والغَيْظِ والعَدَاوة . ثم قال : " فأعرض عنهم " وهذا يُفيدُ أمْرَيِن :
الأوّل : أن لا يَقْبَل مِنْهُم العَذْر ويَصْبِر على سُخْطِهِ ، فإن مَنْ لا يَقْبَلُ العُذْرَ فقد يُوصَفُ بأنه مُعْرِضٌ عَنْه ، غير مُلْتَفِت إليه .
الثاني : أن هذا يَجْرِي مُجْرَى قوله : اكْتَفِ بالإعْرَاضِ ولا تَهْتِك سَتْرَهُم ، ولا تُظْهِر لَهُم علمك بما في بَوَاطِنهم ، فإنَّ من هَتَكَ سَتْر عُدُوِّه وأَظهر عِلْمَه بما في قَلْبِهِ ، فربما يُجَرِّئُهُ ألاَّ يُبَالِي بإظْهَارِ العَدَاوَة ، فَيَزْدَاد الشَّرُّ ، وإذا تركَهُ على حَالِهِ ، بَقِيَ في خَوْف ووجَلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ .
ثم قال : " وعظهم " أي : ازجرهم عن النِّفَاقِ والمكْرِ والمكيدَة والحَسَد والكَذِبِ ، وخَوِّفْهُم بعقاب اللَّه - تعالى - في الآخِرَةِ ، كما قال - تعالى - :
{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] .
ثم قال - تعالى - : { فقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } .
قوله تعالى : " في أنفسهم " فيه أوجه :
الأول : أن يتعلّق ب " قل " ، وفيه معنيان :
الأوّل : قُلْ لهم خالياً لا يكُونُ معهم أحد ؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة .
الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق .
الثالث من الأوجه : أن يتعلق ب " بليغاً " ، أي قولاً مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ، ويستشعرون به استشعاراً . قال معناه الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مَذْهَبُ الكُوفيين ؛ إذ فيه تقدِيم مَعْمُول الصِّفَةِ على المَوْصُوف ، لو قُلْت : " جَاء زَيْداً رجلٌ يَضْرِبُ " ، لم يَجُزْ عند البَصْريين لأنه لا يتقدم المعْمُول إلا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيم العَامِل ، والعَامِلُ هُنَا لا يجوزُ تَقْدِيمُه ؛ لأن الصِّفَة لا تَتَقَدَّم على المَوْصُوف ، والكُوفِيُّون يُجِيزُون تَقْديم مَعْمُول الصِّفَة على الموصُوف ، وأمَّا قَوْل البَصْريَّين : إنه لا يَتَقدَّم المَعْمُول إلا حَيْثُ يَتَقدَّم العَامِل فيه بَحْثٌ ؛ وذلك أنَّا وجدْنا هذه القَاعِدَة مُنْخَرمَة في نَحْوِ قوله :
{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] ف " اليتيم " مَعْمُول ل " تقهر " و " السائل " مَعْمُول ل " تنهر " ، وقد تقدَّمَا على " لاَ " النَّاهِيَة والعَامِل فيهما لا يجوزُ تَقْدِيمُه عليهما ؛ إذا المجْزُوم لا يتَقَدَّم على جَازِمِه ، فقد تَقَدَّم المَعْمُول حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل .
وكذلك قَالُوا في قوله : [ الطويل ]
قنَافِذُ هَدَّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ *** بِمَا كَانَ إيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَا{[19]}
خَرَّجوا هذا البَيْتَ على أنَّ في " كان " ضَمِيرَ الشَّأنِ ، و " عَطِيَّة " مبْتَدأ و " عَوَّدَ " خبره حتى لا يلي " كان " معْمُول خَبَرها ، وهو غير ظَرْفٍ ولا شِبْهُه{[20]} ، فَلَزمَهُم من ذِلك تَقْديم المَعْمُول ، وهو " إيَّاهُم " حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل ؛ لأن الخَبَر مَتَى كَانَ فِعْلاً رافعاً لضمِيرٍ مُسْتَتِرٍ ، امْتَنَع تَقْدِيمه على المُبْتَدأ ، لئلا يَلْتبس بالفَاعِلِ ، نحو : زَيْد ضَرَب عَمْراً ، وأصل مَنْشَأ هذا البَحْث تَقْدِيم خَبَر " لَيْس " عليها ، أجازه الجُمْهُور ؛ لقوله - تعالى - : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ووجه الدَّليل أن " يَوْم " مَعْمُولٌ ل " مصروفاً " وقد تَقَدَّم على " لَيْسَ " ، وتقديم المَعْمُول يؤذِنُ بتقديم العَامِلِ ، فعورضوا بما ذَكَرْنَا .
قيل المراد ب " القَوْل البَلِيغ " : التَّخْوِيف باللَّه - عزَّ وجَلَّ - ، وقيل : تَوعَّدَهُم بالقَتْل إن لم يَتُوبُوا .
وقال الحَسَن : القَوْلُ البَلِيغُ أن يَقُول لَهُم : إن أظْهَرْتم ما في قُلُوبكُم من النِّفَاقِ ، قُتِلْتُم ؛ لأنه يَبْلُغ في نُفُوسِهِم كُلَّ مَبْلَغٍ .
وقال الضَّحَّاك : " فأعرضْ عَنْهُم وعِظْهُم " في المَلأ [ الأعْلى ]{[21]} ، { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً } في السِّرِّ والخَلاَء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.