اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا} (63)

ثم قال : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } أي : من النِّفَاقِ والغَيْظِ والعَدَاوة . ثم قال : " فأعرض عنهم " وهذا يُفيدُ أمْرَيِن :

الأوّل : أن لا يَقْبَل مِنْهُم العَذْر ويَصْبِر على سُخْطِهِ ، فإن مَنْ لا يَقْبَلُ العُذْرَ فقد يُوصَفُ بأنه مُعْرِضٌ عَنْه ، غير مُلْتَفِت إليه .

الثاني : أن هذا يَجْرِي مُجْرَى قوله : اكْتَفِ بالإعْرَاضِ ولا تَهْتِك سَتْرَهُم ، ولا تُظْهِر لَهُم علمك بما في بَوَاطِنهم ، فإنَّ من هَتَكَ سَتْر عُدُوِّه وأَظهر عِلْمَه بما في قَلْبِهِ ، فربما يُجَرِّئُهُ ألاَّ يُبَالِي بإظْهَارِ العَدَاوَة ، فَيَزْدَاد الشَّرُّ ، وإذا تركَهُ على حَالِهِ ، بَقِيَ في خَوْف ووجَلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ .

ثم قال : " وعظهم " أي : ازجرهم عن النِّفَاقِ والمكْرِ والمكيدَة والحَسَد والكَذِبِ ، وخَوِّفْهُم بعقاب اللَّه - تعالى - في الآخِرَةِ ، كما قال - تعالى - :

{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125 ] .

ثم قال - تعالى - : { فقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } .

قوله تعالى : " في أنفسهم " فيه أوجه :

الأول : أن يتعلّق ب " قل " ، وفيه معنيان :

الأوّل : قُلْ لهم خالياً لا يكُونُ معهم أحد ؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة .

الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق .

الثالث من الأوجه : أن يتعلق ب " بليغاً " ، أي قولاً مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً ، ويستشعرون به استشعاراً . قال معناه الزمخشري ، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مَذْهَبُ الكُوفيين ؛ إذ فيه تقدِيم مَعْمُول الصِّفَةِ على المَوْصُوف ، لو قُلْت : " جَاء زَيْداً رجلٌ يَضْرِبُ " ، لم يَجُزْ عند البَصْريين لأنه لا يتقدم المعْمُول إلا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيم العَامِل ، والعَامِلُ هُنَا لا يجوزُ تَقْدِيمُه ؛ لأن الصِّفَة لا تَتَقَدَّم على المَوْصُوف ، والكُوفِيُّون يُجِيزُون تَقْديم مَعْمُول الصِّفَة على الموصُوف ، وأمَّا قَوْل البَصْريَّين : إنه لا يَتَقدَّم المَعْمُول إلا حَيْثُ يَتَقدَّم العَامِل فيه بَحْثٌ ؛ وذلك أنَّا وجدْنا هذه القَاعِدَة مُنْخَرمَة في نَحْوِ قوله :

{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] ف " اليتيم " مَعْمُول ل " تقهر " و " السائل " مَعْمُول ل " تنهر " ، وقد تقدَّمَا على " لاَ " النَّاهِيَة والعَامِل فيهما لا يجوزُ تَقْدِيمُه عليهما ؛ إذا المجْزُوم لا يتَقَدَّم على جَازِمِه ، فقد تَقَدَّم المَعْمُول حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل .

وكذلك قَالُوا في قوله : [ الطويل ]

قنَافِذُ هَدَّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ *** بِمَا كَانَ إيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَا{[19]}

خَرَّجوا هذا البَيْتَ على أنَّ في " كان " ضَمِيرَ الشَّأنِ ، و " عَطِيَّة " مبْتَدأ و " عَوَّدَ " خبره حتى لا يلي " كان " معْمُول خَبَرها ، وهو غير ظَرْفٍ ولا شِبْهُه{[20]} ، فَلَزمَهُم من ذِلك تَقْديم المَعْمُول ، وهو " إيَّاهُم " حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل ؛ لأن الخَبَر مَتَى كَانَ فِعْلاً رافعاً لضمِيرٍ مُسْتَتِرٍ ، امْتَنَع تَقْدِيمه على المُبْتَدأ ، لئلا يَلْتبس بالفَاعِلِ ، نحو : زَيْد ضَرَب عَمْراً ، وأصل مَنْشَأ هذا البَحْث تَقْدِيم خَبَر " لَيْس " عليها ، أجازه الجُمْهُور ؛ لقوله - تعالى - : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ووجه الدَّليل أن " يَوْم " مَعْمُولٌ ل " مصروفاً " وقد تَقَدَّم على " لَيْسَ " ، وتقديم المَعْمُول يؤذِنُ بتقديم العَامِلِ ، فعورضوا بما ذَكَرْنَا .

فصل في تفسير القول البليغ

قيل المراد ب " القَوْل البَلِيغ " : التَّخْوِيف باللَّه - عزَّ وجَلَّ - ، وقيل : تَوعَّدَهُم بالقَتْل إن لم يَتُوبُوا .

وقال الحَسَن : القَوْلُ البَلِيغُ أن يَقُول لَهُم : إن أظْهَرْتم ما في قُلُوبكُم من النِّفَاقِ ، قُتِلْتُم ؛ لأنه يَبْلُغ في نُفُوسِهِم كُلَّ مَبْلَغٍ .

وقال الضَّحَّاك : " فأعرضْ عَنْهُم وعِظْهُم " في المَلأ [ الأعْلى ]{[21]} ، { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً } في السِّرِّ والخَلاَء .

وقيل : هذا مَنْسُوخٌ بآيةِ القِتَالِ .


[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.