الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا} (63)

قوله تعالى : { فِي أَنْفُسِهِمْ } : فيه أوجه : أَوْجهُها : أن يتعلق ب " قل " وفيه معنيان ، الأولُ : قل لهم خالياً لا يكون معهم أحد ، لأنَّ ذلك أَدْعى إلى قَبول النصحية . الثاني : قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يَبْلُغ بهم ما يَزْجُرهم عن العَوْدِ إلى النفاق . الثاني من الأوجهِ أَنْ يتعلَّق ب " بليغاً " أي : قولاً مؤثِّراً في قلوبِهم يغتمُّون به اغتماماً ، ويستشعرون به استشعاراً ، قال معناه الزمخشري ، ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ هذا مذهبُ الكوفيين ، إذ فيه تقديمُ معمولِ الصفة على الموصوف ، لو قلت : " جاء زيداً رجلٌ يضربُ " لم يجز عند البصريين ؛ لأنه لا يتقدم المعمولُ إلا حيث يجوز تقديم العامل ، والعامل هنا لا يجوزُ تقديمه ؛ لأن الصفة لا تتقدم على الموصوف ، والكوفيون يجيزون تقديم معمولَ الصفة على الموصوف ، وأمَّا قول البصريين : إنه لا يتقدم المعمول إلا حيث يتقدم العامل ففيه بحث ، وذلك أنَّا وجدنا هذه القاعدة منخرمةً في قوله :

{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 - 10 ] ف " اليتيم " معمول " ل " تقهر " ، و " السائل " معمول ل " تنهر " وقد تقدًّما على " لا " الناهية ، والعاملُ فيهما لا يجوز تقديمُه عليها إذ ، المجزوم لا يتقدَّم على جازمه ، فقد تقدَّم المعمول حيث لا يتقدم العامل ، وكذلك قالوا في قوله :

قنافِذُ هَدَّاجون حولَ بيوتِهم *** بما كان إيَّاها عطيَّةُ عَوَّدا

خَرَّجوا هذا البيتَ على أنَّ في " كان " ضميرَ الشان ، و " عَطِيَّةُ " مبتدأ و " عَوَّدَ " خبرُه ، حتى لا يَليَ " كان " معمولُ خبرها ، وهو غيرُ ظرفٍ ولا شِبْهِه ، فلزمهم من ذلك تقديمُ المعمول وهو " إياهم " حيث لايتقدمَ العاملُ ؛ لأن الخبرَ متى كان فعلاً رافعاً لضمير مستتر امتنع تقديمه على المبتدأ / لئلا يلتبسَ بالفاعل نحو : " زيد ضرب عمراً " وأصلُ منشأ هذا البحث تقديمُ خبرِ " ليس " عليها ، أجازه الجمهور لقوله تعالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] ووجه الدليلِ أنَّ " يوم " معمولٌ ل " مصروفاً " ، وقد تقدَّم على " ليس " وتقديمُ المعمولِ يُؤْذِنُ بتقديم العامل ، فَعُورضوا بما ذ‍َكَرْتُ لك ، وللنظر في هذا البحثِ مجالٌ ليس هذا محلَّه ، وقد أتقنت ذلك في كتابي " الشرحُ الكبير : شرح تسهيل الفوائد " فعليك به . الثالث : ونُقِل عن مجاهد ولا أظنُّه يَصِحُّ عنه - أنه متلعق ب " مصيبة " فهو التقديم والتأخير ، والقرآن يُنَزَّهُ عن ذلك ، وإنما ذَكَرْتُه تنبيهاً على ضَعْفه .