اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلۡحِنثِ ٱلۡعَظِيمِ} (46)

قوله : { وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } .

الحِنْثُ في أصل كلامهم : العدل الثقيل ، وسمي به الذنب والإثم لثقلهما ، قاله الخطابي{[54914]} .

وفلان حَنِثَ في يمينه ، أي لم يَفِ به ؛ لأنه يأثم غالباً ، ويعبر بالحِنْثِ عن البُلُوغ ، ومنه قوله : «لَمْ يَبْلغوا الحِنْثَ »{[54915]} .

وإنما قيل ذلك ؛ لأن الإنسان عند بلوغه إيَّاه يؤاخذ بالحنث ، أي : بالذنب ، وتَحَنَّثَ فلان ، أي جانب الحِنْث .

وفي الحديث : «كَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءَ »{[54916]} ، أي : يتعبّد لمُجانبته الإثم ، نحو : «تَحَرَّجَ » فتفعَّل في هذه كلِّها للسَّلْب{[54917]} .

فصل في تفسير الآية{[54918]}

قال الحسن ، والضحاك ، وابن زيد : { يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } أي : يقيمون على الشرك{[54919]} .

وقال قتادة ومجاهد : الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه{[54920]} .

وقال الشَّعبي : هو اليمين الغَمُوس ، وهي من الكبائر ، يقال : حنث في يمينه ، أي : لم يبرّها ورجع فيها ، وكانوا يقسمون أن لا بعث ، وأن الأصنام أنْداد الله فذلك حنثهم .

فصل في الحكمة من ذكر عذاب هذه الطائفة

قال ابن الخطيب{[54921]} : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ، ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم ، فلم يقل : إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين ، وذلك تنبيه على أن ذلك الثواب منه فضل ، والعقاب منه عدل ، والفضل سواء ذكر سببه ، أو لم يذكره لا يتوهّم بالمتفضل نقص وظلم .

وأمَّا العدل إن لم يعلم سبب العقاب ، يظن أن هناك ظلماً ، ويدلّ على أنه تعالى لم يقل في أصحاب اليمين : { جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كما قاله في السَّابقين ؛ لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل ، بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه .

واعلم أن المترف هو المنعم ، وذلك لا يوجب ذمًّا ، وإنما حصل لهم الذم بقوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم } ، فإن صدور المعاصي ممن كثرت النِّعم عليه [ من ] أقبح القبائح ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } ، ولم يشكروا نعم الله ، بل أصروا على الذنب العظيم .

وفي الآية مبالغة{[54922]} ؛ لأن قوله : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } يقتضي أن ذلك عادتهم ، والإصرار على مُدَاومةِ المعصية والحنث أبلغ من الذنب ؛ لأن الذنب يطلق على الصغيرة ، ويدل على ذلك قولهم : «بَلَغَ الحِنْثَ » أي : بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة .

وأما الصغيرة فتلحقُ الصغير ، فإن وليَّهُ يعاقبه على إسَاءَة الأدب ، وترك الصلاة ، ولأن وصفه بالعظيم مبالغة . قاله ابن الخطيب{[54923]} .


[54914]:ينظر الدر المصون 6/260.
[54915]:تقدم.
[54916]:تقدم.
[54917]:ينظر الدر المصون 6/260.
[54918]:ينظر القرطبي 17/138.
[54919]:أخرجه الطبري في تفسيره" (11/648) عن الضحاك وابن زيد.
[54920]:ينظر المصدر السابق.
[54921]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 29/148.
[54922]:الفخر الرازي 29/149.
[54923]:السابق 29/150.