مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَهُوَ ٱلۡقَاهِرُ فَوۡقَ عِبَادِهِۦۖ وَيُرۡسِلُ عَلَيۡكُمۡ حَفَظَةً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ تَوَفَّتۡهُ رُسُلُنَا وَهُمۡ لَا يُفَرِّطُونَ} (61)

قوله تعالى : { وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين }

اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته . وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة ، كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ومنه قوله تعالى : { يد الله فوق أيديهم } ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله : { وهو القاهر فوق عباده } مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية ، والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة ، إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهورا . وتقرير هذا القهر من وجوه : الأول : إنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد ، والثاني : أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى . فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات . والثالث : أنه قهار لكل ضد بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور ، والنهار بالليل والليل بالنهار . وتمام تقريره في قوله : { قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } .

وإذا عرفت منهج الكلام . فاعلم أنه بحر لا ساحل له لأن كل مخلوق فله ضد ، فالفوق ضده التحت ، والماضي ضده المستقبل ، والنور ضده الظلمة ، والحياة ضدها الموت ، والقدرة ضدها العجز . وتأمل في سائل الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان ، وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبرا قادرا قاهرا منزها عن الضد والند ، مقدسا عن الشبيه والشكل . كما قال : { وهو القاهر فوق عباده } والرابع : أن هذا البدن مؤلف من الطبائع الأربع . وهي متنافرة متباغضة متباعدة بالطبع والخاصة فاجتماعها لا بد وأن يكون بقسر قاسر وأخطأ من قال إن ذلك القاسر هو النفس الإنسانية ، وهو الذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأن تعلق النفس بالبدن إنما يكون بعد حصول المزاج واعتدال الأمشاج ، والقاهر لهذه الطبائع على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع ، والسابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخر عن حصول الاجتماع . فثبت أن القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلا الله تعالى ، كما قال : { وهو القاهر فوق عباده } وأيضا فالجسد كثيف سفلي ظلماني فاسد عفن ، والروح لطيف علوي نوراني مشرق باق طاهر نظيف ، فبينهما أشد المنافرة والمباعدة . ثم إنه سبحانه جمع بينهما على سبيل القهر والقدرة ، وجعل كل واحد منهما مستكملا بصاحبه منتفعا بالآخر . فالروح تصون البدن عن العفونة والفساد والتفرق ، والبدن يصير آلة للروح في تحصيل السعادات الأبدية ، والمعارف الإلهية ، فهذا الاجتماع وهذا الانتفاع ليس إلا بقهر الله تعالى لهذه الطبائع ، كما قال { وهو القاهر فوق عباده } وأيضا فعند دخول الروح في الجسد أعطى الروح قدرة على فعل الضدين ، ومكنة من الطرفين إلا أنه يمتنع رجحان الفعل على الترك تارة والترك على الفعل أخرى إلا عند حصول الداعية الجازمة الخالية عن المعارض . فلما لم تحصل تلك الداعية امتنع الفعل والترك فكان إقدام الفاعل وعلى الفعل تارة وعلى الترك أخرى بسبب حصول تلك الداعية في قلبه من الله يجري مجرى القهر فكان قاهرا لعباده من هذه الجهة ، وإذا تأملت هذه الأبواب علمت أن الممكنات والمبدعات والعلويات والسفليات والذوات والصفات كلها مقهورة تحت قهر الله مسخرة تحت تسخير الله تعالى ، كما قال : { وهو القاهر فوق عباده } .

وأما قوله تعالى : { ويرسل عليكم حفظة } فالمراد أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم وهؤلاء الحفظة هم المشار إليهم بقوله تعالى : { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } وقوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وقوله : { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين } واتفقوا على أن المقصود من حضور هؤلاء الحفظة ضبط الأعمال . ثم اختلفوا فمنهم من يقول : إنهم يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها بدليل قوله تعالى : { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مع كل إنسان ملكين : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين ، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار انتظره لعله يتوب منها ، فإن لم يتب كتب عليه . والقول الأول : أقوى لأن قوله تعالى : { ويرسل عليكم حفظة } يفيد حفظة الكل من غير تخصيص .

والبحث الثاني : أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال ، أما على صفات القلوب وهي العلم والجهل فليس في هذه الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها . أما في الأقوال ، فلقوله تعالى : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وأما في الأعمال فلقوله تعالى : { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } فأما الإيمان والكفر والإخلاص والإشراك فلم يدل الدليل على اطلاع الملائكة عليها .

البحث الثالث : ذكروا في فائدة جعل الملائكة موكلين على بني آدم وجوها : الأول : أن المكلف إذا علم أن الملائكة موكلون به يحصون عليه أعماله ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح . الثاني : يحتمل في الكتابة أن يكون الفائدة فيها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن ، أما وزن الصحائف فممكن . الثالث : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد . ويجب علينا الإيمان بكل ما ورد به الشرع سواء عقلنا الوجه فيه أو لم نعقل ، فهذا حاصل ما قاله أهل الشريعة وأما أهل الحكمة فقد اختلفت أقوالهم في هذا الباب على وجوه :

الوجه الأول : قال المتأخرون منهم : { وهو القاهر فوق عباده } ومن جملة ذلك القهر أنه خلط الطبائع المتضادة ومزج بين العناصر المتنافرة ، فلما حصل بينها امتزاج استعد ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج لقبول النفس المدبرة والقوى الحسية والحركية والنطقية فقالوا المراد من قوله : { ويرسل عليكم حفظة } تلك النفوس والقوى ، فإنها هي التي تحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها .

والوجه الثاني : وهو قول بعض القدماء أن هذه النفوس البشرية والأرواح الإنسانية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها ، فبعضها خيرة وبعضها شريرة وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والدناءة وغيرها من الصفات ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب الشفيق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظاتها ومناماتها تارة على سبيل الرؤيا ، وأخرى على سبيل الإلهامات فالأرواح الشريرة لها مبادئ من عالم الأفلاك ، وكذا الأرواح الخيرة وتلك المبادئ تسمى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تلك الأرواح الفلكية في تلك الطبائع والأخلاق تامة كاملة ، وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ولأصحاب الطلسمات والعزائم الروحانية في هذا الباب كلام كثير .

والقول الثالث : النفس المتعلقة بهذا الجسد . لا شك في أن النفوس المفارقة عن الأجساد لما كانت مساوية لهذه في الطبيعة والماهية فتلك النفوس المفارقة تميل إلى هذه النفس بسبب ما بينهما من المشاكلة والموافقة وهي أيضا تتعلق بوجه ما بهذا البدن وتصير معاونة لهذه النفس على مقتضيات طبيعتها فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الذي جاءت الشريعة الحقة به ليس للفلاسفة أن يمتنعوا عنها لأن كلهم قد أقروا بما يقرب منه وإذا كان الأمر كذلك كان إصرار الجهال منهم على التكذيب باطلا والله أعلم .

أما قوله تعالى : { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } فههنا بحثان :

البحث الأول : أنه تعالى قال : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } وقال : { الذي خلق الموت والحياة } فهذا النصان يدلان على أن توفي الأرواح ليس إلا من الله تعالى . ثم قال : { قل يتوفاكم ملك الموت } وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصل إلا من ملك الموت . ثم قال في هذه الآية : { توفته رسلنا } فهذه النصوص الثلاثة كالمتناقضة .

والجواب : أن التوفي في الحقيقة يحصل بقدرة الله تعالى ، وهو في عالم الظاهر مفوض إلى ملك الموت ، وهو الرئيس المطلق في هذا الباب ، وله أعوان وخدم وأنصار ، فحسنت إضافة التوفي إلى هذه الثلاثة بحسب الاعتبارات الثلاثة والله أعلم .

البحث الثاني : من الناس من قال : هؤلاء الرسل الذين بهم تحصل الوفاة ، وهم أعيان أولئك الحفظة فهم في مدة الحياة يحفظونهم من أمر الله ، وعند مجيء الموت يتوفونهم ، والأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة ، ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق ، إلا أن الذي مال إليه الأكثرون هو القول الثاني ، وأيضا فقد ثبت بالمقاييس العقلية أن الملائكة الذين هم معادن الرحمة والخير والراحة مغايرون للذين هم أصول الحزن والغم فطائفة من الملائكة هم المسمون بالروحانيين لإفادتهم الروح والراحة والريحان ، وبعضهم يسمون بالكروبيين لكونهم مبادئ الكرب والغم والأحزان .

البحث الثالث : الظاهر من قوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت } أنه ملك واحد هو رئيس الملائكة الموكلين بقبض الأرواح ، والمراد بالحفظة المذكورين في هذه الآية : أتباعه ، وأشياعه عن مجاهد : جعل الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله ، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين ، وجاء في الأخبار من صفات ملك الموت ومن كيفية موته عند فناء الدنيا وانقضائها أحوال عجيبة .

والبحث الرابع : قرأ حمزة : توفاه بالألف ممالة والباقون بالتاء ، فالأول لتقديم الفعل ، ولأن الجمع قد يذكر ، والثاني على تأنيث الجمع .

أما قوله تعالى : { وهم لا يفرطون } أي لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به ، وهذا يدل على أن الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يقصرون فيما أمروا به . وقوله في صفة ملائكة النار : { لا يعصون الله ما أمرهم } يدل على أن ملائكة العذاب لا يقصرون في تلك التكاليف ، وكل من أثبت عصمة الملائكة في هذه الأحوال أثبت عصمتهم على الإطلاق ، فدلت هذه الآية على ثبوت عصمة الملائكة على الإطلاق .