مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَوَعَجِبۡتُمۡ أَن جَآءَكُمۡ ذِكۡرٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ مِّنكُمۡ لِيُنذِرَكُمۡ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ} (63)

قوله تعالى : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين }

اعلم أن قوله : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا } يدل على أن مراد القوم من قولهم لنوح عليه السلام : { إنا لنراك في ضلال مبين } هو أنهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال ، وذلك من وجوه : أحدها : أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه ، لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من الإرسال هو التكليف . والتكليف لا منفعة فيه للمعبود لكونه متعاليا عن النفع والضرر ، ولا منفعة فيه للعابد ، لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة ، وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب ، فالله قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف ، فيكون التكليف عبثا ، والله متعال عن العبث ، وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة . وثانيها : أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا : ما علم حسنه بالعقل فعلناه ، وما علم قبحه تركناه ، وما لا طاقة له به ، وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه للحذر عن خطر العقاب ، ولما كان رسول العقل كافيا فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر . وثالثها : أن بتقدير : أنه لا بد من الرسول ؛ فإن إرسال الملائكة أولى ، لأن مهابتهم أشد ، وطهارتهم أكمل ، واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر ، وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم . ورابعها : أن بتقدير : أن يبعث رسولا من البشر ، فلعل القوم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي ، فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان ، فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين ، فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة ، ثم أن نوحا عليه السلام أزال تعجبهم وقال : إنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة ، لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء ، وهو ينافي التكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } فبقي أن يكون إيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان ، وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم ، ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله ، ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله ، فهذا هو المراد من قوله : { لينذركم ولتتقوا لعلكم ترحمون } .

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية .

أما قوله : { أوعجبتم } فالهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ؟ أي عجبتم أن جاءكم ذكر . وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوها . قال الحسن : إنه الوحي الذي جاءهم به . وقال آخرون : المراد بهذا الذكر المعجز ، ثم ذلك المعجز يحتمل وجهين : أحدهما : أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتابا ، وكان ذلك الكتاب معجزا ، فسماه الله تعالى ذكرا ، كما سمي القرآن بهذا الاسم ، وجعله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم . والثاني : أن ذلك المعجز كان شيئا آخر سوى الكتاب . وقوله : { على رجل } قال الفراء : { على } ههنا بمعنى مع كما تقول : جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه ، كلاهما جائز . وقال ابن قتيبة : أي على لسان رجل منكم ، كما قال { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أي على لسان رسلك . وقال آخرون : { ذكر من ربكم } منزل على رجل ، وقوله : { منكم } أي تعرفون نسبه فهو منكم نسبا ، وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب ، لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف ، وبطهارة أحواله أعلم ، وبما يقتضي السكون إليه أبصر .

ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول ، فقال : { لينذركم } وما لأجله ينذر ، فقال : { ولتتقوا } وما لأجله يتقون ، فقال : { ولعلكم ترحمون } وهذا الترتيب في غاية الحسن ، فإن المقصود من البعثة الإنذار ، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي ، والمقصود من التقوى ، الفوز بالرحمة في دار الآخرة . قال الجبائي والكعبي والقاضي : هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم ، التقوى والفوز بالرحمة ، وذلك يبطل قول من يقول : إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد ، وخلقهم لأجل العذاب والنار .

وجواب أصحابنا أن نقول : إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وإن توقف لزم الجبر ، ومتى لزم ذلك وجب القطع ، فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر ، وذلك يبطل مذهبكم .