مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ} (58)

ثم قال تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } .

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في هذه الآية قولان :

القول الأول : وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة ، وشبه نزول القرآن بنزول المطر ، فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار ، وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل ، فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة ، والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل .

والقول الثاني : أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر ، وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة . فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة ، فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات ، كان ذلك أولى .

المسألة الثانية : هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقيا وبالعكس ، وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان : منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة ، كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة ، وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة ، فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليظة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية ، ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب ، ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب ، وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول : من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون الجاه ، ومنهم من يكون بالعكس ، والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود ، ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار ، وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافا جوهريا ذاتيا لا يمكن إزالته ولا تبديله ، وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفسا مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ، ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جاريا مجرى تكليف ما لا يطاق فثبت بهذا البيان : أن السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه ، وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها ، والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكدا قليل الفائدة والخير ، كثير الفضول والشر .

والوجه الثاني : من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى : { بإذن ربه } وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى .

المسألة الثالثة : قرئ { يخرج نباته } أي يخرجه البلد وينبته .

أما قوله تعالى : { والذي خبث } قال الفراء : يقال : خبث الشيء يخبث خبثا وخباثة . وقوله : { إلا نكدا } النكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل . وقال الليث : النكد : الشؤم واللؤم وقلة العطاء ، ورجل أنكد ونكد قال :

وأعط ما أعطيته طيبا *** لا خير في المنكود والناكد

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { والذي خبث } صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا ، فحذف المضاف الذي هو النبات ، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى ذلك البلد مقامه ، إلا أنه كان مجرورا بارزا فانقلب مرفوعا مستكنا لوقوعه موقع الفاعل ، أو يقدر ونبات الذي خبث ، وقرئ { نكدا } بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد .

ثم قال تعالى : { كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون } قرئ { يصرف } أي يصرفها الله ، وإنما ختم هذه الآية بقوله : { لقوم يشكرون } لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سببا لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سببا لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيذة ، فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته ، ومن الوجه الثاني تنبيه على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد ، فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها ، فلا جرم قال : { نصرف الآيات لقوم يشكرون } وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها ، فهو كقوله : { هدى للمتقين } .