مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا} (16)

واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين ( أولي النعمة ) بأهوال القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا :

فقل تعالى : { إنا أرسلنا رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } واعلم أن الخطاب لأهل مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل ، وهاهنا سؤالات :

السؤال الأول : لم نكر الرسول ثم عرف ؟ ( الجواب ) التقدير أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه فأخذناه أخذا وبيلا ، فأرسلنا إليكم أيضا رسولا فعصيتم ذلك الرسول ، فلا بد وأن نأخذكم أخذا وبيلا .

السؤال الثاني : هل يمكن التمسك بهذه الآية في إثبات أن القياس حجة ؟ ( والجواب ) نعم لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى ، فإن قيل : هب أن القياس في هذه الصورة حجة ، فلم قلتم : إنه في سائر الصور حجة ، وحينئذ يحتاج إلى قياس سائر القياسات على هذا القياس ، فيكون ذلك إثباتا للقياس بالقياس ، وإنه غير جائز ؟ قلنا : لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة ، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم ، بل وجه التمسك هو أن نقول : لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنا يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة ، وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هاهنا فإن لقائل أن يقول : لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حالة العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة هاهنا ، فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل هاهنا ، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم فهذا الجزم لا بد وأن يقال : إنه كان مسبوقا بتقرير أنه متى وقع الاشتراك في المناط الظاهر وجب الجزم بالاشتراك في الحكم ، وإن مجرد احتمال الفرق بالأشياء التي لا يعلم كونها مناسبة للحكم لا يكون قادحا في تلك التسوية ، فلا معنى لقولنا القياس حجة إلا هذا .

السؤال الثالث : لم ذكر في هذا الموضع قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم ؟ ( الجواب ) لأن أهل مكة ازدروا محمدا عليه الصلاة والسلام ، واستخفوا به لأنه ولد فيهم ، كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه رباه وولد فيما بينهم وهو قوله : { ألم نربك فينا وليدا } .

السؤال الرابع : ما معنى كون الرسول شاهدا عليهم ؟ ( الجواب ) من وجهين ( الأول ) أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم ( الثاني ) المراد كونه مبينا للحق في الدنيا ، ومبينا لبطلان ما هم عليه من الكفر ، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ، ولذلك وصفت بأنها بينة ، فلا يمتنع أن يوصف عليه الصلاة والسلام بذلك من حيث إنه بين الحق ، وهذا بعيد لأن الله تعالى قال : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي عدولا خيارا { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } فبين أنه يكون شاهدا عليهم في المستقبل ، ولأن حمله على الشهادة في الآخرة حقيقة ، وحمله على البيان مجاز والحقيقة أولى .

السؤال الخامس : ما معنى الوبيل ؟ ( الجواب ) فيه وجهان ( الأول ) الوبيل : الثقيل الغليظ ومنه قولهم : صار هذا وبالا عليهم ، أي أفضى به إلى غاية المكروه ، ومن هذا قيل للمطر العظيم : وابل ، والوبيل : العصا الضخمة ( الثاني ) قال أبو زيد : الوبيل الذي لا يستمرأ ، وماء وبيل وخيم إذا كان غير مريء وكلأ مستوبل ، إذا أدت عاقبته إلى مكروه ، إذا عرفت هذا فنقول قوله : { فأخذناه أخذا وبيلا } يعني الغرق ، قاله الكلبي ومقاتل وقتادة .