مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا} (6)

قوله تعالى : { إن ناشئة الليل } يقال : نشأت تنشأ نشأ فهي ناشئة ، والإنشاء الإحداث ، فكل ما حدث ( فهو ناشئ ) فإنه يقال للذكر ناشئ وللمؤنث ناشئة ، إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان : ( أحدهما ) أنها عبارة عن ساعات الليل ( والثاني ) أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل ، أما القول الأول ، فقال أبو عبيدة : ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى ، فهي ناشئة بعد ناشئة ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فمنهم من قال الليل كله ناشئة ، روى ابن أبي مليكة ، قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل ، فقال الليل كله ناشئة . وقال زين العابدين رضي الله عنه : ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي قالوا : لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدىء سواد الليل ، ( القول الثاني ) هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل ، وذكروا على هذا القول وجوها ( أحدها ) قالوا : ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت ( وثانيها ) ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم ، قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة ، ومنه ناشئة الليل ، وعندي فيه ( وجه ثالث ) وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات البتة ، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية ، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات ، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية ، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية والخواطر النورانية ، التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس ، وسماها ناشئة الليل لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار ، ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات ، وتارة أنوار ومكاشفات ، وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه ، أو تخيلات أحوال عجيبة ، فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناسا كثيرة لا يجمعها جامع إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل .

قوله تعالى : { هي أشد وطئا } أي مواطأة وملاءمة وموافقة ، وهي مصدر يقال : واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطأة ومنه{ ليواطئوا عدة ما حرم الله } أي ليوافقوا ، فإن فسرنا الناشئة بالساعات كان المعنى أنها أشد موافقة لما يرد من الخشوع والإخلاص ، وإن فسرناها بالنفس الناشئة كان المعنى شدة المواطأة بين القلب واللسان ، وإن فسرناها بقيام الليل كان المعنى ما يراد من الخشوع والإخلاص ، وإن فسرناها بما ذكرت كان المعنى أن إفضاء تلك المجاهدات إلى حصول المكاشفات في الليل أشد منه في النهار ، وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق .

المسألة الثانية : قرئ { أشد وطئا } بالفتح والكسر وفيه وجهان ( الأول ) قال الفراء : أشد ثبات قدم ، لأن النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش ( والثاني ) أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار ، وهو من قولك : اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه ، وفي الحديث : « اللهم أشدد وطأتك على مضر » فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام : « أفضل العبادات أحمزها » أي أشقها . واختار أبو عبيدة القراءة الأولى ، قال : لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية ، فكأنه قال : إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل ، وأيضا الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم .

قوله تعالى : { وأقوم قيلا } فيه مسألتان :

المسألة الأولى : { أقوم قليلا } قال ابن عباس : أحسن لفظا ، قال ابن قتيبة : لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول ، ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل .

المسألة الثانية : قرأ أنس وأصوب قيلا ، فقيل له : يا أبا حمزة إنما هي : { وأقوم قيلا } فقال أنس : وأصوب وأهيأ واحد ، قال ابن جني ، وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني ، فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ : ( فحاسبوا خلال الديار ) بالحاء غير المعجمة ، فقيل له : إنما هو جاسوا ، فقال : حاسوا وجاسوا واحدو أنا أقول : يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيرا للفظ القرآن ، لا على أنه جعله نفس القرآن ، إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن ، ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقا لذلك المعنى ، ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد ، وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن ، فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه .