اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَعَصَىٰ فِرۡعَوۡنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذۡنَٰهُ أَخۡذٗا وَبِيلٗا} (16)

قوله : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } ، إنما عرفه لتقدم ذكره ، وهذه «أل » العهدية ، والعرب إذا قدمت اسماً ثم حكت عنه ثانياً ، أتوا به معرفاً ب «أل » ، أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو «رأيت رجلاً فأكرمتُ الرجل ، أو فأكرمته » ، ولو قلت : «فأكرمت رجلاً » لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً }[ الشرح : 6 ] وقوله - عليه الصلاة والسلام - : «لَنْ يغْلِبَ عسرٌ يُسرين »{[58371]} .

قال المهدوي هنا : ودخلت الألف واللام في «الرسول » لتقدم ذكره ، ولذلك اختير في أول الكتب «سَلامٌ عَليْكُم » ، وفي آخرها «السَّلام عليْكُم » .

قوله : { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } ، أي : شديداً ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل ، أي : شديد .

قاله ابن عباس ومجاهد ، ومنه : «مطر وابل » ، أي : شديد{[58372]} ، قاله الأخفش .

وقال الزَّجاجُ : أي : ثقيلاً غليظاً ، ومنه قيل للمطر وابل . وقيل : مهلكاً ، قال : [ الكامل ]

4934 - أكَلْتِ بَنِيكِ أكْل الضَّبِّ حتَّى*** وجَدْتِ مرارة الكَلأ الوَبيلِ{[58373]}

واستوبل فلان كذا : أي : لم يحمد عاقبته ، وماء وبيل ، أي : وخيم غير مريء وكلأ مستوبل ، وطعام وبيل ومستوبل إذا لم يُمرأ ولم يستمرأ ؛ قال زهير : [ الطويل ]

4935 - فَقضَّوا مَنايَا بَينَهُمْ ثُمَّ أصْدَرُوا*** إلى كَلأٍ مُستوبَلٍ مُتوخمِ{[58374]}

وقالت الخنساء : [ الوافر ]

4936 - لَقَدْ أكَلتْ بجِيلةُ يَوْمَ لاقَتْ*** فَوارِسَ مالِكٍ أكْلاً وبِيلا{[58375]}

والوبيل أيضاً : العصا الضخمة ؛ قال : [ الطويل ]

4937 - لَوْ أصْبَحَ فِي يُمْنَى يَديَّ رِقامُهَا***وفِي كفِّيَ الأخْرَى وبِيلاً نُحَاذِرُهْ{[58376]}

وكذلك : «الوبل » بكسر الباء ، و «الوبل » أيضاً : الحزمة من الحطب وكذلك «الوبيل » .

قال طرفة : [ الطويل ]

4938 - . . . *** عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبِيلِ يَلنْدَدِ{[58377]}

فصل في الاستدلال بالآية على «القياس »

قال ابن الخطيب{[58378]} : هذه الآية يمكن الاستدلال بها على إثبات القياس ، لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى .

فإن قيل هنا : هب أن القياس في هذه الصورة حجة ، فلم قلتم : إنه في سائر الصور حجة ، حينئذ يحتاج إلى سائر القياسات على هذا القياسِ ، فيكون ذلك إثباتاً للقياس بالقياس ؟ .

قلنا : لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة ، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم بل وجه التمسك أن نقول : لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنّاً يجب اشتراكهما في الحكم ، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم هنا ، فإنَّ لقائلٍ أن يقول : لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حال العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة - هاهنا - ، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم بالتسوية في الحكم [ فهذا الجزم لا بد وأن يقال إنه كان مسبوقاً بتقدير أنه متى وقع اشتراك في المناط الظاهر وجزم الاشتراك في الحكم ] ، وإن الفرق المرجوح من أن ذلك المرجوح لخصوص تلك الواقعةِ لا عبرة به لم يكن لهذا الكلام كثير فائدة ، ولا معنى لقولنا القياس حجة إلا لهذا .

فصل في معنى شهادة الرسول عليهم

قال ابن الخطيب{[58379]} : ومعنى كون الرسول شاهداً عليهم من وجهين :

الأول : أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم ، وتكذيبهم .

الثاني : أن المراد بكونه شاهداً كونه مبيناً للحق في الدنيا ومبيناً لبطلان ما هم عليه من الفكر ، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق ، ولذلك وصفت بأنها بينة ، ولا يمتنع أن يوصف صلى الله عليه وسلم بذلك من حيث إنه يبين الحق .

قال ابن الخطيب{[58380]} : وهذا بعيد ، لأن الله تعالى قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس }[ البقرة : 143 ] أي : عُدُولاً خياراً ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، فبين أنه شاهد عليهم في المستقبل لأن حمله الشهادة في الآخرة حقيقة ، وحمله على البيان مجاز ، والحقيقة أولى من المجاز .


[58371]:سيأتي تخريجه في "سورة الشرح".
[58372]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/290) عن ابن عباس ومجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(6/446) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
[58373]:قائله هو العملس بن عقيل. ينظر الحيوان 4916، والمعاني الكبير ص 642، والأغاني 12/271، وشرح شواهد المغني 2/783، ومغني اللبيب 2/366، والقرطبي 19/33.
[58374]:ينظر: شرح ديوان زهير ص (24)، واللسان (وخم) والقرطبي 19/33.
[58375]:ينظر: القرطبي 19/33.
[58376]:ينظر: اللسان (وبل) والقرطبي 19/33.
[58377]:يروى يلندد مكان المبدد. ينظر: ديوان طرفة ص 38، واللسان (وبل) والقرطبي 19/33.
[58378]:ينظر: الفخر الرازي 30/161.
[58379]:السابق.
[58380]:السابق 30/162.