{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } انكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها ، والمراد بعبده إما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي عن السدى وأيد بقوله تعالى : { وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } أي الأوثان التي اتخذوها آلهة ؛ فإن الخطاب سواء كانت الجملة استئنافاً أو حالاً له صلى الله عليه وسلم : وقد روي أن قريشاً قالت له عليه الصلاة والسلام : انا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لعيبك إياها فنزلت ، وفي رواية قالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل فنزلت ، أو الجنس المنتظم له عليه الصلاة والسلام انتظاماً أولياً ، وأيد بقراءة أبي جعفر . ومجاهد . وابن وثاب . وطلحة والأعمش . وحمزة . والكسائي { عِبَادِهِ } بالجمع وفسر بالأنبياء عليهم السلام والمؤمنين ، وعلى الأول يراد أيضاً الأتباع كما سمعت في قوله تعالى : { والذي جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] { وَيُخَوّفُونَكَ } شامل لهم أيضاً على ما سلف والتئام الكلام بقوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ } [ الزمر : 32 ] إلى هذا المقام لدلالته على أنه تعالى يكفي نبيه صلى الله عليه وسلم منهم دينه ودنياه ويكفي أتباعه المؤمنين أيضاً المهمين وفيه أنه سبحانه يكفيهم شر الكافرين من وجهين من طريق المقابلة ومن انه داخل في كفاية مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه ، وهذا ما تقتضيه البلاغة القرآنية ويلائم ما بني عليه السورة الكريمة من ذكر الفريقين وأحوالهما توكيداً لما أمر به أولاً من العبادة والإخلاص . وقرئ { مِنْ عِبَادِهِ } بالإضافة و { مِنْ عِبَادِهِ } مضارع كافي ونصب { عِبَادِهِ } فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك : يجاري في يجري وهو أبلغ من كفى لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن نحو { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة وهي المجازاة ، ووجه الارتباط أنه تعالى لما ذكر حال من كذب على الله وكذب بالصدق وجزاء ، وحال مقابله أعني الذي جاء بالصدق وصدق به وجزاءه وعرض بقوله سبحانه : { ذَلِكَ جَزَاء المحسنين } [ الزمر : 34 ] بأن ما سلف جزاء الكافرين المسيئين لما هو معروف من فائدة البناء على اسم الإشارة ثم عقبه تعالى بقوله عز وجل : { لِيُكَفّرَ } [ الزمر : 35 ] الخ على معنى ليكفر عنهم ويجزيهم خصهم بما خص فنبه على المقابل أيضاً من ضرورة الاختصاص والتعليل ، وفيه أيضاً ما يدل على حكم المقابل على اعتبار المتعلق غير ما ذكر كما يظهر بأدنى التفات أردف بقوله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } وحيث أن مطمح النظر من العباد السيد الحبيب صلى الله عليه وسلم كان المعنى الله تعالى يجازي عبده ونبيه عليه الصلاة والسلام هذا الجزاء المذكور وفيه أنه الذي يجزيه البتة ويلائمه قوله تعالى : { وَيُخَوّفُونَكَ } فإنه لما كان في مقابلة ذم آلهتهم كما سمعت في سبب النزول كان تحذيراً من جزاء الآلهة فلا مغمز بعدم الملاءمة . نعم لا ننكر أن معنى الكفاية أبلغ كما هو مقتضى القراءة المشهورة فاعلم ذاك والله تعالى يتولى هداك .
{ وَمَن يُضْلِلِ الله } حتى غفل عن كفايته تعالى عبده وخوف بما لا ينفع ولا يضر أصلاً { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يهديه إلى خير ما .
{ 36 - 37 } { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ }
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } أي : أليس من كرمه وجوده ، وعنايته بعبده ، الذي قام بعبوديته ، وامتثل أمره واجتنب نهيه ، خصوصا أكمل الخلق عبودية لربه ، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن اللّه تعالى سيكفيه في أمر دينه ودنياه ، ويدفع عنه من ناوأه بسوء .
{ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد أن تنالك بسوء ، وهذا من غيهم وضلالهم .
قوله تعالى : { أليس الله بكاف عبده } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم . وقرأ أبو جعفر ، و حمزة ، والكسائي : " عباده " بالجمع يعني : الأنبياء عليهم السلام قصدهم قومهم بالسوء ، كما قال :{ وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } ( غافر-5 ) فكفاهم الله شر من عاداهم ، { ويخوفونك بالذين من دونه } وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرة معاداة الأوثان ، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة:"ألَيْسَ اللّهُ بكافٍ عَبْدَهُ"؛ فقرأ ذلك بعض قراء المدينة وعامة قرّاء أهل الكوفة: «ألَيْسَ اللّهُ بكافٍ عِبادَهُ» على الجماع، بمعنى: أليس الله بكاف محمدا وأنبياءه من قبله ما خوفتهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض قرّاء الكوفة: "بكاف عَبْدَهُ "على التوحيد، بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدا.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأةِ الأمصار. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لصحة مَعْنَيَيْهَما واستفاضة القراءة بهما في قَرَأةِ الأمصار...
وقوله: "ويُخَوّفُونَكَ بالّذِينَ مِنْ دُونِهِ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ويخوّفك هؤلاء المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والاَلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك... وقوله: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هاد" يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله فيضلّه عن طريق الحق وسبيل الرشد، فما له سواه من مرشد ومسدّد إلى طريق الحقّ، وموفّق للإيمان بالله، وتصديق رسوله، والعمل بطاعته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الآية يحتجّ بها على إثبات الرسالة، وكذلك قوله: {فإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو} [التوبة: 129] وكذلك قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] ونحو ذلك، وأمثاله كثيرة وكان يقرع أسماعهم بهذه الآيات التي ذكرنا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فاللَّهُ كافٍ عَبْدَه اليومَ في عرفانه بتصحيح إيمانه ومَنْع الشِّرْكِ عنه، وغداً في غفرانه بتأخير العذاب عنه، وما بينهما فكفايتهُ تامة وسلاَمته عامة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف وفي هذا تهكم بهم؛ لأنّهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضرّ...
جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: {أليس الله بكاف عبده}؛ لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات، وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات، فلهذا قال:
{أليس الله بكاف عبده} ولما ذكر الله المقدمة رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال:
{ويخوفونك بالذين من دونه} يعني لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف بغير الله عبثا وباطلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أليس الله} أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال:
{بكاف} وحقق المناط بالإضافة في قوله: {عبده} أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل، ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به.
ولما كان الجواب قطعاً: بلى، إنه ليكفي من يشاء، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم: {ويخوفونك} أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد، وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك.
ولما كان الخوف ممن له اختيار، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم فضلاً عن العقل، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس: {بالذين} وبين حقارتهم بقوله: {من دونه} وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون: إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود:54] وسيأتي التعبير عنهم بالتأنيث زيادة في توبيخهم.
ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل، وكان التقدير: فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية، كما أن هداه لمن هداه آية، فقال مخففاً عنه صلى الله عليه وسلم في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية:
{ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره.
{فما له} لأجل أنه هو الذي أضله {من هاد} أي فخفض من حزنك عليهم...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكاري للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الجولة أوسع مقاطع السورة. وهي تتناول حقيقة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة. تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة؛ واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة. ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى الله يوم القيامة ويمضي في طريقه ثابتاً واثقاً مستيقناً بالمصير.
يتلو هذا بيان وظيفة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وأنه ليس وكيلاً على العباد في هداهم وضلالهم. إنما الله هو المسيطر عليهم؛ الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم. وليس لهم من دونه شفيع فإن لله الشفاعة جميعاً. وإليه ملك السماوات والأرض. وإليه المرجع والمصير.
بلى! فمن ذا يخيفه، وماذا يخيفه؟ إذا كان الله معه؟ وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام؟ ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟
فكيف يخاف؟ والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله. وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟
إنها قضية بسيطة واضحة، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن.. إنه الله. ومَن هم دون الله. وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه.
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة. وهو الذي يقضي في العباد قضاءه في ذوات أنفسهم، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
في استحضار الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف العبودية وإضافته إلى ضمير الجلالة، معنى عظيم من تشريفه بهذه الإِضافة وتحقيقِ أنه غير مُسلمِه إلى أعدائه.
يعني: يا محمد، لا تهتم بهذا الهراء فالله حَسْبك وكافيك، والذي يدل على ذلك أن رسول الله كان يحرسه القوم من المؤمنين مخافة أن يناله المشركون بسوء، ففوجئوا في يوم أن رسول الله يسرحهم ويُنهي هذه الحراسة ويصرفها.
ولو لم يكُنْ رسول الله واثقاً أن الذي أمره بصرف الحراس كفيلٌ بحفظه وحمايته لما فعل ذلك في نفسه؛ لذلك رأينا المرأة الدنماركية وهي تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم، أنه أعظم العظماء الذين تركوا بصمة واضحة في التاريخ، وقلبوا ميزان الدنيا، فلما جاءت عند هذه الحادثة وقرأت {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وقرأت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] قالت: والله ما فعل محمد ذلك إلا وهو واثقٌ من حماية ربه له، ولو خدع الناسَ جميعاً ما خدع نفسه، وآمنتْ بسبب هذه المسألة.
قوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} يحلو للبعض أن يقول المعنى: أليس الله كافياً عبده، ويعتبرون الباء زائدة، وهذا غير صحيح، فليس في كلام الله تعالى حرف زائد، فالهمزة هنا استفهام إنكاري، والإنكار يفيد النفي، بعدها ليس للنفي ونفي النفي إثبات.
يعني: ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، وما دُمْنا ننكر أن الله ليس بكافٍ عبده، فالنتيجة أن الله تعالى كافٍ عبده.
والحق سبحانه وتعالى: له اسم هو الله، وله صفات هي التي عرفناها بالأسماء الحسنى، ومن أسمائه الحسنى الكافي، فالمعنى إذن: أليس الله موصوفاً بكاف عبده، فكيف إذن نقول: إن الباء زائدة؟
إن القول بزيادة الباء هنا يناقضُ بلاغةَ القرآن، ولا يصح أن نقول: إن في القرآن حرفاً زائداً، البعض يتأدّبون مع كلام الله ويقولون: بل هو حرف صلة، وآخرون يقولون: حرف لربط الوجود، ولسنا في حاجة إلى كل هذه التأويلات...
أما الذين قالوا بزيادة الباء في {بِكَافٍ} فقد اعتبروا (ليس) من أخوات كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلفظ الجلالة اسمها مرفوع وكافٍ خبرها، فالتقدير: أليس الله كافياً عبده، وهذا ينافي جلال القرآن وبلاغته.
وقوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} أي: بالأصنام {وَمَن يُضْـلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ} يعني: دعهم يقولون ما يقولون فقد أَضلهم الله فمَنْ يهديهم؟