{ وَلَوْ شَاء الله } جعلهم أمة واحدة { لَجَعَلَهُمْ } أي في الدنيا { أُمَّةً وَاحِدَةً } مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله : على دين واحد ، فمعنى قوله تعالى : { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ } أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعاً فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل { والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ } وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عز وجل كما في الإدخال في الرحمة ، واختار الزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] وقوله سبحانه : { وَلَوْ شِئْنَا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله تعالى : { مَن يَشَآء } وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير ، والكلام متعلق بقوله تعالى : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ الشورى : 6 ] كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم ، فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم علة لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولاً أولياً ، وعدل عن الظاهر إلى ما في «النظم الجليل » إذ الكلام في الإنذار وهو أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل لهم من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفي ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه .
وتعقب بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذٍ داخلون فيها فكان المناسب حينئذٍ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه ، وربما يقال : حيث أن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمناً كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم أولئك المتخذون من دونه أولياء كفاراً لا خلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسباً كما لا يخفي على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء دون «يدخل من يشاء » لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية ، وقال شيخ الإسلام : الذي يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى :
{ كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين } [ البقرة : 213 ] الآية على أحد الوجهين ، فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولاً لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عز وجل ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى .
ولا يخفي أن بين قوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } الآية ، وقوله سبحانه : { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة } بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق .
{ و } مع هذا { لَوْ شَاءَ اللَّهُ } لجعل الناس ، أي : جعل الناس { أُمَّةً وَاحِدَةً } على الهدى ، لأنه القادر الذي لا يمتنع عليه شيء ، ولكنه أراد أن يدخل في رحمته من شاء من خواص خلقه .
وأما الظالمون الذين لا يصلحون لصالح ، فإنهم محرومون من الرحمة ، ف { مَا لَهُمْ } من دون الله { مِنْ وَلِيٍّ } يتولاهم ، فيحصل لهم المحبوب { وَلَا نَصِيرٍ } يدفع عنهم المكروه .
قوله تعالى :{ ولو شاء الله لجعلهم أمةً واحدةً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : على دين واحد . وقال مقاتل : على ملة الإسلام كقوله تعالى : { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } ( الأنعام-35 ) ، { ولكن يدخل من يشاء في رحمته } في دين الإسلام ، { والظالمون } الكافرون ، { ما لهم من ولي } يدفع عنهم العذاب ، { ولا نصير } يمنعهم من النار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو أراد الله أن يجمع خلقه على هدى، ويجعلهم على ملة واحدة لفعل، ولجعلهم أمة واحدة يقول: أهل ملة واحدة، وجماعة مجتمعة على دين واحد.
"وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ" يقول: لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة، ولكن يُدخل من يشاء، من عباده في رحمته، يعني أنه يُدخله في رحمته بتوفيقه إياه للدخول في دينه، الذي ابتعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. "وَالظّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيّ وَلا نَصِيرٍ" يقول: والكافرون بالله ما لهم من وليّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله حين يعاقبهم، فينقذهم من عذابه، ويقتصّ لهم ممن عاقبهم، وإنما قيل هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عما كان يناله من الهمّ بتولية قومه عنه، وأمراً له بترك إدخال المكروه على نفسه من أجل إدبار من أدبر عنه منهم، فلم يستجب لما دعاه إليه من الحقّ، وإعلاماً له أن أمور عباده بيده، وأنه الهادي إلى الحقّ من شاء، والمضلّ من أراد دونه، ودون كلّ أحد سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة} يُخبِر أن عنده من اللطائف والقدرة ما لو شاء لجعلهم جميعا أمة واحدة وعلى دين واحد، وهو ما قال: {ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفا من فضة} الآية [الزخرف: 33] فلو جعل ذلك لأهل التوحيد لكانوا جميعا [على دين الإسلام على ما أخبر على أنه لو كان ذلك مع أهل الكفر لكانوا جميعا أهل كفر.
ثم قوله تعالى: {ولو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة} لا يحتمل مشيئة الجبر والقسر على ما يقوله المعتزلة، وعندنا أراد به مشيئة الاختيار، وأخبر أن عنده من اللطائف ما لو أعطى الكل لآمنوا جميعا عن اختيار.
لكنه لم يُعطهم ولم يشأ، لِما علم منهم أنهم لا يرغبون فيه، ولا يختارون ذلك. ولكن إنما يختارون ضد ذلك ونقيضه. لذلك لم يشأ لهم، وإنما يشاء لمن علم أنه يختار ذلك فضلا.
{ولكن يُدخل من يشاء في رحمته} يخبر أن من أعطى ذلك يعطيه رحمة منه وفضلا، لا أنهم يستوجبون ذلك منه ويستحقون عليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
حيث خَلَقَهم مختلفين -على ما أراد- فلا مبالاة بهم.. إنه إله واحدٌ جبَّارٌ غيرُ مأمور متولٍ جميع الأمور؛ من الخير والشر، والنفع والضر. هو الذي يحيي النفوسَ والقلوبَ اليومَ وغداً، ويميت النفوسَ والقلوبَ اليومَ وغداً.. وهو على كل شيءٍ قدير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة} أي مؤمنين كلهم على القسر والإكراه، كقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] والدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان. قوله: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ} [يونس: 99] بإدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله. دليل على أنّ الله وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. والمعنى: ولو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعاً على الإيمان، ولكنه شاء مشيئة حكمة، فكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بمن يشاء. ألا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين ويترك الظالمين بغير ولي ولا نصير في عذابه.
{ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة} والمراد تقرير قوله {والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان، فلو شاء الله ذلك لفعله لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمنا والبعض كافرا، فقوله {يدخل من يشاء في رحمته} يدل على أنه تعالى هو الذي أدخلهم في الإيمان والطاعة، وقوله {والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} يعني أنه تعالى ما أدخلهم في رحمته، وهذا يدل على أن الأولين إنما دخلوا في رحمته؛ لأنه كان لهم ولي ونصير أدخلهم في تلك الرحمة، وهؤلاء ما كان لهم ولي ولا نصير يدخلهم في رحمته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فلو شاء الله لخلق البشر خلقة أخرى توحد سلوكهم، فتوحد مصيرهم، إما إلى جنة وإما إلى نار. ولكنه -سبحانه- خلق هذا الإنسان لوظيفة. خلقه للخلافة في هذه الأرض. وجعل من مقتضيات هذه الخلافة، على النحو الذي أرادها، أن تكون للإنسان استعدادات خاصة بجنسه، تفرقه عن الملائكة وعن الشياطين، وعن غيرهما من خلق الله ذوي الطبيعة المفردة الموحدة الاتجاه. استعدادات يجنح بها ومعها فريق إلى الهدى والنور والعمل الصالح؛ ويجنح بها ومعها فريق إلى الضلال والظلام والعمل السّيئ كل منهما يسلك وفق أحد الاحتمالات الممكنة في طبيعة تكوين هذا المخلوق البشري؛ وينتهي إلى النهاية المقررة لهذا السلوك: (فريق في الجنة وفريق في السعير).. وهكذا: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير).. وفق ما يعلمه الله من حال هذا الفريق وذاك، واستحقاقه للرحمة بالهداية أو استحقاقه للعذاب بالضلال. ولقد سبق أن بعضهم يتخذ من دون الله أولياء. فهو يقرر هنا أن الظالمين: (ما لهم من ولي ولا نصير).. فأولياؤهم الذين يتخذونهم لا حقيقة لهم إذن ولا وجود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا مسوق لتسلية الرّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على تمنّيهم أن يكون النّاس كلّهم مهتدين ويكون جميعهم في الجنّة، وبذلك تعلم أن ليس المراد: لو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة في الأمرين الهُدى والضلال؛ لأن هذا الشقّ الثاني لا يتعلق الغرض ببيانه هنا، وإن كان في نفس الأمر لو شاء الله لكان، فتأويل هذه الآية بما جاء في قوله تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حقّ القول مني لأملان جهنم من الجنّة والنّاس أجمعين} [السجدة: 13] وقوله: {ولو شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرض كلّهم جميعاً أفأنت تكره النّاس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99]. وقد دلّ على ذلك الاستدراكُ الذي في قوله: {ولكن يدخل من يشاء في رحمته} أي ولكن شَاء مشيئةً أخرى جرت على وفق حكمته، وهي أنْ خلقهم قابلين للهدى والضلال بتصاريف عُقولهم وأميالهم، ومكَّنهم من كسب أفعالهم وأوضح لهم طريق الخير وطريق الشر بالتكليف فكان منهم المهتدون وهم الذين شاء الله إدخالهم في رحمته، ومنهم الظالمون الذين ما لهم من ولي ولا نصير. فقوله: {يدخل من يشاء في رحمته} أحدُ دليلين على المعنى المستدرَك إذ التقدير: ولكنه جعلهم فريقين فريقاً في الجنّة وفريقاً في السعير ليدخل من يشاء منهم في رحمته وهي الجنة. وأفهم ذلك أنّه يدخل منهم الفريق الآخر في عقابه، فدلّ عليه أيضاً بقوله: {والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} لأن نفي النصير كناية عن كونهم في بؤس وضُر ومغلوبية بحيث يحتاجون إلى نصير لو كان لهم نصير، فيدخل في الظالمين مشركو أهل مكّة دخولاً أوليًّا لأنهم سبب ورود هذا العموم. وأصل النظم: ويُدخل من يشاء في غضبه، فعُدِل عنه إلى ما في الآية للدلالة على أن سبب إدخالهم في غضبه هو ظلمهم، أي شركهم {إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ} [لقمان: 13] مع إفادة أنّهم لا يجدون وليًّا يدفع عنهم غضبه ولا نصيرا يثْأر لهم. وضمير (جعلهم) عائد إلى فريق الجنّة وفريق السعير باعتبار أفراد كل فريق...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قال بعضهم في الفرق بين «ولي» و «نصير» أنّ «الولي» الذي يقوم بمساعدة الإنسان دون طلبه. أما النصير فأعم من ذلك. ويحتمل أن تشير كلمة «ولي» إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أي طلب. أمّا «النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون...