الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُدۡخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحۡمَتِهِۦۚ وَٱلظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ} (8)

ثم قوى تعالى تسليةَ نَبِيِّه بأَنْ عَرَّفَه أَنَّ الأمر موقوفٌ على مشيئة اللَّه من إيمانهم أو كُفْرهم ، وأَنَّه لو أراد كونهم أُمَّةً واحدةً على دينٍ واحدٍ ، لجمعهم عليه ؛ ولكِنَّه سبحانه يدخل مَنْ سبقَتْ له السعادةُ عنده في رحمته ، ويُيَسِّره في الدنيا لعمل أهل السعادة ، وأَنَّ { والظالمون } بالكفر المُيَسَّرِينَ لعمل الشقاوة { ما لهم من ولي ولا نصير } . قال عبدُ الحَقِّ رحمه اللَّه في «العاقبة » : وقد علمتَ ( رحمك اللَّه ) أَنَّ الناس يوم القيامة صنفان :

صنف مُقَرَّبٌ مُصَانٌ .

وآخر مُبْعَدٌ مُهَانٌ .

صنف نِصِبَت لهم الأَسِرَّة والحِجَال ؛ والأرائكُ والكِلاَل ؛ وجُمِعَتْ لَهُمُ الرغائبُ والآمالُ .

وآخَرُونَ أُعِدَّتْ لهم الأراقمُ والصِّلاَلِ ؛ والمقامعُ والأغلالِ ؛ وضروبُ الأهوال والأنْكَال ، وأنْتَ لا تعلم من أَيِّهما أنْتَ ؛ ولا في أَيِّ الفريقَيْن كُنْتَ .

نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قَبَائِلِ نَوْفَل*** وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ

وَتَقَلَّبُوا فَرِحِينَ تَحْتَ ظِلاَلِهَا *** وَطُرِحْتُ بِالصَّحْرَاءِ غَيْرَ مُظَلَّلِ

وَسُقُوا مِنَ الصَّافي الْمُعَتَّقِ رِيُّهُم *** وَسُقِيتُ دَمْعَةَ وَالِهٍ مُتَمَلْمِلِ

بكى سفيانُ الثوريُّ رحمه اللَّه ليلةً إلى الصَّبَاحِ ، فقيل له : أبكاؤك هذا على الذنوب ؟ فأخذ تِبْنَةً من الأرض ، وقال : الذنوبُ أَهْوَنُ من هذا ؛ إنَّما أَبْكِي ؛ خوفَ الخاتمةِ ، وبَكَى سفيان ، وغير سفيان ، وَإنَّهُ لِلأَمْر يبكى عليه ؛ وَيصرف الاهتمام كلّه إليه ، وقد قيل : لا تَكُفَّ دَمْعَك ؛ حتى ترى في المعاد رَبْعَك . وقيل : يا ابْنَ آدم ، الأقلام عليك تَجْرِي ، وأنْتَ في غفلة لا تَدْرِي ، يا ابْنَ آدمَ دَعِ التنافُسَ في هذه الدار ، حتى ترى ما فَعَلَتَ في أمرِكَ الأَقْدَار ، سمع بعض الصالحينَ مُنْشِداً ينشد : " أَيَا رَاهِبِي نَجْرَانَ مَا فَعَلَتْ هِنْد فبكى ليلةً إلى الصباح ، فَسُئِلَ عن ذلك فقال : قلتُ في نفسي : ما فعلَتِ الأقدار فيّ ؛ وماذا جَرَتْ به عَلَي ؟ انتهى .