تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُدۡخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحۡمَتِهِۦۚ وَٱلظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ} (8)

الآية 8 وقوله تعالى : { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } يُخبِر أن عنده من اللطائف والقدرة ما لو شاء لجعلهم جميعا أمة واحدة وعلى دين واحد ، وهو ما قال : { ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفا من فضة } الآية [ الزخرف : 33 ] فلو جعل ذلك لأهل التوحيد لكانوا جميعا [ على دين الإسلام على ما أخبر على أنه لو كان ذلك مع أهل الكفر لكانوا جميعا{[18659]} أهل كفر .

ثم قوله تعالى : { ولو شاء الله لجعلهم أمّة واحدة } لا{[18660]} يحتمل مشيئة الجبر والقسر على ما يقوله المعتزلة لوجوه :

أحدها : لما يكون الإيمان في حال الجبر والقهر لأنه لا صنع لهم في ذلك ، ولا اختيار لهم .

والثاني : أن كل أحد بشهادة الخِلقة مؤمن موحّد لله تعالى . ثم لم يصيروا بذلك مؤمنين . فعلى ذلك بالجبر والقهر ؛ إذ في الحالين ليس فعل المؤمن إنما هو فعل غيره . فدل أنه أراد أن يُشاء منهم ما يكونون{[18661]} مختارين في الإيمان لا مجبورين .

والثالث : أن الإيمان بالجبر والقهر مما لا يعرفه الناس ، ولا يطلق عليه اسم الإيمان في العُرف ، وقد وعدهم الإيمان ، وجعل الدين واحدا . وهذا عند التعارف ينصرف إلى ما يوجد منهم عن طوع واختيار لا بالجبر والقهر ، فتكون الآية منصرفة إلى المعهود عند الناس إلى ما هو الأصل في الكلام ، والله المُوفّق .

وعندنا أراد به مشيئة الاختيار ، وأخبر أن عنده من اللطائف ما لو أعطى الكل لآمنوا جميعا عن اختيار .

لكنه لم يُعطهم ولم يشأ ، لِما علم منهم أنهم لا يرغبون فيه ، ولا يختارون ذلك . ولكن إنما يختارون ضد ذلك ونقيضه . لذلك لم يشأ لهم ، وإنما يشاء لمن علم أنه يختار ذلك فضلا .

وقوله تعالى : { ولكن يُدخل من يشاء في رحمته } يخبر أن [ من ]{[18662]} أعطى ذلك يعطيه رحمة منه وفضلا ، لا أنهم يستوجبون ذلك منه ، ويستحقون عليه ، والله الموفّق .

ثم إن الله تعالى سمّى الإيمان مرة رحمة بقوله : { ولكن يدخل من يشاء في رحمته } ومرة سمّاه منّة بقوله : { ولكن الله يمنّ على من يشاء } [ إبراهيم : 11 ] وبقوله : { بل الله يمُنّ عليكم أن هداكم } الآية [ الحجرات : 17 ] فلو كان الإيمان يقوم بالذي يكون الكفر من القدرة ، ولم يكن من الله تعالى إلى المؤمنين إلا وقد كان مثله إلى الكافر على ما يقوله المعتزلة : إن الإيمان إنما يكون بالذي يكون الكفر ، لم يكن لتسميته هذا نعمة ورحمة وتسمية الكفر ضده معنى ، والله الموفّق .

وبعد فإنه لو كان على ما يقوله المعتزلة لكان ما ذكر من النعمة والمنّة والرحمة ، إنما يكون بالخلق منهم لا بالله تعالى ومنه .

دل أن عنده لطائف ، من أعطى تلك اللطائف آمن ، واهتدى ، ومن لم يُعط إياها لم يؤمن ، وقد أعطى المؤمن تلك ، ولم يُعط الكافر . لذلك كان ما ذكرنا ، والله الموفق .

ثم في تخصيص أمّ القرى ومن حولها بالنذارة وجوه :

[ أحدها : ما ]{[18663]} ذكر في آية أخرى أنه نذير للعالمين جميعا بقوله : { ليكون للعالمين نذيرا } [ الفرقان : 1 ] فإذا كان مبعوثا إلى جميع العالم لا إلى بعض دون بعض كما كان/489-أ/ بعث{[18664]} الأنبياء عليهم السلام فلا بد أن يكون لتخصيص أمّ القرى ومن حولها معنى وحكمة .

[ والثاني : ما ]{[18665]} يحتمل أن يكون لأهل مكة طمع في شفاعته ، وإن لم يتّبعوه ، إما بحق القرابة والاتصال وإما بحق الأيادي ، ولمن{[18666]} حولهم بحق الجوار . فذكر تخصيصهم بالإنذار بيوم الجمع حتى يزول طمعهم بدون الاتباع . والنزوع{[18667]} عن الشرك إذ ذلك [ لا يزول ]{[18668]} بمطلق الإنذار لما عندهم ، وفي{[18669]} زعمهم أن المراد في ذلك غيرهم لما لهم من زيادة سبب الوسيلة معه .

والثالث{[18670]} : أن يُنذر هؤلاء ومن ذكر شفاها ومن بعُد منهم خبرا ، أو [ أنه ]{[18671]} خص هؤلاء بحق البداية ثم الأقرب{[18672]} فالأقرب .

وعلى ذلك يخرّج قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] على الوجوه التي ذكرنا .

وقوله سبحانه وتعالى : { والظالمون ما لهم من وليّ ولا نصير } أي ما لهم من وليّ يشفع ولا نصير ينصر ، ويمنعهم من عذاب .


[18659]:من م، ساقطة من الأصل.
[18660]:أدرج قبلها في الأصل وم: و.
[18661]:في الأصل وم: يكون.
[18662]:من م، ساقطة من الأصل.
[18663]:في الأصل وم: أن.
[18664]:في الأصل وم: بعض.
[18665]:في الأصل وم: أحدها لما.
[18666]:في الأصل وم: ومن.
[18667]:من م، في الأصل: والنزول.
[18668]:من م، ساقطة من الأصل.
[18669]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[18670]:في الأصل وم: والثاني.
[18671]:ساقطة من الأصل وم.
[18672]:في الأصل وم: بالأقرب.