روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُدۡخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحۡمَتِهِۦۚ وَٱلظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ} (8)

{ وَلَوْ شَاء الله } جعلهم أمة واحدة { لَجَعَلَهُمْ } أي في الدنيا { أُمَّةً وَاحِدَةً } مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله : على دين واحد ، فمعنى قوله تعالى : { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ } أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعاً فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل { والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ } وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عز وجل كما في الإدخال في الرحمة ، واختار الزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] وقوله سبحانه : { وَلَوْ شِئْنَا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله تعالى : { مَن يَشَآء } وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير ، والكلام متعلق بقوله تعالى : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ الشورى : 6 ] كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم ، فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم علة لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولاً أولياً ، وعدل عن الظاهر إلى ما في «النظم الجليل » إذ الكلام في الإنذار وهو أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل لهم من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفي ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه .

وتعقب بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذٍ داخلون فيها فكان المناسب حينئذٍ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه ، وربما يقال : حيث أن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمناً كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم أولئك المتخذون من دونه أولياء كفاراً لا خلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسباً كما لا يخفي على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء دون «يدخل من يشاء » لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية ، وقال شيخ الإسلام : الذي يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى :

{ كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين } [ البقرة : 213 ] الآية على أحد الوجهين ، فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولاً لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عز وجل ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى .

ولا يخفي أن بين قوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } الآية ، وقوله سبحانه : { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة } بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق .