روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{۞وَلَقَدۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَبَعَثۡنَا مِنۡهُمُ ٱثۡنَيۡ عَشَرَ نَقِيبٗاۖ وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمۡۖ لَئِنۡ أَقَمۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَيۡتُمُ ٱلزَّكَوٰةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرۡتُمُوهُمۡ وَأَقۡرَضۡتُمُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّكُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ فَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (12)

{ وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسرائيل } كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق ، وتحذيرهم من نقضه ، أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش ، وتحقيقه بناءاً على أنه كان صادراً من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية ، وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله ، والالتفات في قوله تعالى : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً } للجري على سنن الكبرياء ، وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق ، و النقيب قيل : فعيل بمعنى فاعل مشتقاً من النقب بمعنى التفتيش ، ومنه { فَنَقَّبُواْ فِى البلاد } [ ق : 36 ] وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم ، وقيل : بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم ، وتفتيش على أحوالهم . قال الزجاج : وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل ، ويقال : فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة ، ونقاب : للعالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور ، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق ، ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره .

روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون ، وقال سبحانه لهم : إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم ، وأمر جل شأنه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلاً عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق ، واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراماً عظاماً وبأساً شديداً فهابوا ، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام ، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع ، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له عوج بن عنق ، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله ، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج ، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام ، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان فرسخاً في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله .

وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام ، وكان مجلسها جريباً من الأرض ، فلما لقوا عوجاً وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعاً وجعلهم في حزمته ، وانطلق بهم إلى امرأته وقال : انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها ، وقال : ألا أطحنهم برجلي ؟ فقالت امرأته : لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى .

وأقول : قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة ، وفي «فتاوى العلامة ابن حجر » قال الحافظ العماد بن كثير : قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له ، وهو من مختلقات أهل الكتاب ، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من الكفار أحد ، وقال ابن القيم : من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعاً أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج الطويل وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره ولا يبين أمره ، ثم قال : ولا ريب في أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى .

وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئاً عجيباً ، وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، ومشى صاحب «القاموس » على أن أخباره موضوعة ، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب «العظمة » فيه آثاراً قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله : إنه باطل كذب ، وقال الحافظ السيوطي : والأقرب في خبر عوج أنه من بقية عاد ، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع أو شبه ذلك ، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قتله بعصاه ، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى ، ونعم ما قال ، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه ، ودعوة نوح عليه السلام التي عمت الأرض مما لا يكاد يقبله المنصف ، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين } [ الصافات : 77 ] مما لا يسوغه العارف ، وشيه الحوت بعين الشمس ، مما لا يكاد يعقل على ما ذكره الحكماء فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل إلى الشمس وبعد الوهاد عنها بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم الأشعة المنعكسة فيها فما وصل إليه الشعاع من وجه الأرض يصير حاراً وإلا فلا ، وذكر نحو ذلك شارح «حكمة العين » ، ولا يرد على هذا أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمي الشمس بالثلج إذا طلعت ، ولولا ذلك لأحرقت أهل الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحفاظ ، وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة ، ثم كان القائل بوجود عوج هذا من الناس لا يقول بالطبقة الزمهرية التي هي الطبقة الثالثة من طبقات العناصر السبع ، ولا بما فوقها وإلا فكيف يكون الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق ، والصاعقة إنما ينشأ من تلك الطبقة الباردة التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض ، وقد ذكروا أيضاً أن فوقها طبقتين : الأولى : ما يمتزج مع النار وهي التي يتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل ، ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك ، والثانية : ما يقرب من الخلوص إذ لا يصل إليه حرارة ما فوقه ولا برودة ما تحته من الأرض والماء ، وهي التي يحدث فيها الشهب ، فإذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى إحدى تينك الطبقتين ، فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر ؟ا ولا أظن بشراً كيف كان يقوى على ذلك ، على أن أصل الاحتجاز مما لا يمكن بناءاً على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة الزمهريرية .

وفي كتاب «نزهة القلوب » نقلاً عن الحكيم أبي نصر أن غاية ارتفاعها اثني عشر فرسخاً وستمائة ذراع ، وعن المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخاً ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى . واختلفوا أيضاً في غاية انحطاطها ، ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط إلى ما يتصور معه احتجاز الرجل الذي ذكروا من طوله ما ذكروا بالسحاب ، اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع هذا كله قد أخطأوا في قولهم : ابن عنق ، وإنما هو ابن عوق كنوح كما نص على ذلك في «القاموس » ، وهو أيضاً اسم والده لا والدته كما ذكر هناك أيضاً فليحفظ . وأخرج ابن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه قال في الآية : أخذ الله تعالى ميثاق بني إسرائيل أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره ؛ وبعث منهم اثني عشر كفيلاً كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه ، واختاره الجبائي ، والنقباء حينئذٍ يجوز أن يكونوا رسلاً ، وأن يكونوا قادة كما قال البلخي واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله تعالى عليهم ، وأخرج الطيبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك .

{ وَقَالَ الله } أي للنقباء عند الربيع ، ورجحه السمين للقرب ، وعند أكثر المفسرين لبني إسرائيل ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ما ذكر من الترغيب والترهيب كما ينبىء عنه الإلتفات مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد { إِنّى مَعَكُمْ } أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك ، وقيل : معكم بالنصرة ، وقيل : بالعلم ، والتعميم أولى .

{ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكواة وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى } أي بجميعهم ، واللام موطئة للقسم المحذوف ، وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم كما قال غير واحد كانوا معترفين بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى : { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } ، وقال بعضهم : إن جملة { وَلَقَدْ أَخَذَ } إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة ، ونصرة دين الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والإنفاق في سبيله كأنه قيل : لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله يدل عليه قوله تعالى : { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين } [ المائدة : 21 ] فإن المعنى لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه الصلاة والسلام ، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأولين ، وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه السلام إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون انتهى ، ولا يخلو عن نظر . وقيل : إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من أحوالهم الدالة على إيمانهم ، و التعزير أصل معناه المنع والذب ، وقيل : التقوية من العزر ، وهو والأزر من واد واحد ، ولا يخفى أن في التقوية منعاً لمن قويته عن غيره فهما متقاربان ، ثم تجوز فيه عن النصرة لما فيها من ذلك وعن التأديب ، وهو في الشرع ما كان دون الحدّ لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح ، ولذا سمي في الحديث نصرة ، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره ؟ا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره " ، وقال الراغب : «التعزير النصرة مع التعظيم » ، وبالنصرة فقط فسره الحسن . ومجاهد ، وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد . وأبو عبيدة ، وقرىء عزرتموهم بالتخفيف .

{ وَأَقْرَضْتُمُ الله } أي بالإنفاق في سبيل الخير ، وقيل : بالتصدق بالصدقات المندوبة وأياً مّا كان فهو استعارة لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي يقضى بمثله ، وفي كلام العرب قديماً الصالحات قروض { قَرْضًا حَسَنًا } وهو ما كان عن طيب نفس على ما قال الأخفش ، وقيل : ما لا يتبعه منّ ولا أذى ، وقيل : ما كان من حلال . وذكر غير واحد أن قرضاً يحتمل المصدر والمفعول به .

{ لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم } دال على جواب الشرط المحذوف وسادّ مسدّه معنى ، وليس هو الجواب له خلافاً لأبي البقاء بل هو جواب للقسم ، فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر ، وجوز أن يكون هذا جواباً لما تضمنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل } من القسم ، وقيل : إن جوابه { لَئِنْ أَقَمْتُمُ } فلا تكون اللام موطئة ، أو تكون ذات وجهين وهو غريب وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم . { ولأدخلنكم جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } عطف على ما قبله داخل معه في حكمه متأخر عنه في الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية .

{ فَمَن كَفَرَ } أي برسلي أو بشيء مما عدد في حيز الشرط ، والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب { بَعْدَ ذَلِكَ } الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعني لأكفرن ، وقيل : بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعني أني معكم بناءاً على حمل المعية على المعية بالنصرة والإعانة ، أو التوفيق للخير فإن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتني رفعت محلك ، وقيل : المراد بعد ما شرطت هذا الشرط ووعدت هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام ، وقوله تعالى : { مّنكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل كفر ، ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفاً على الشرطية السابقة كما قال شيخ الإسلام لإخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب ، ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الإيمان ، بل ما يعم الاستمرار عليه أيضاً كأنه قيل : فمن اتصف بالكفر بعد ذلك إلا أنه قصد بإيراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب الكفر فإن الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه ، وإن كان استمراراً عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث . { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } أي وسط الطريق وحاقه ضلالاً لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم عذر .

( هذا ومن باب الإشارة ) : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بني إسرائيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية ، وذكر غير واحد من ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع : الأولياء : نفعنا الله تعالى ببركاتهم ، ففي «الفتوحات » : ومنهم النقباء وهم إثنا عشر نقيباً في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الإثنى عشر برجاً ، كل نقيب عالم بخاصية كل برج ، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات ، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت ، فإن للثوابت حركات وقطعاً في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين ، وأعمار الرصد تقصر عن مشاهدة ذلك ؛ واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة ، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها ، وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة ، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور ، وإذا رأوا شخصاً يقولون : هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء ، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار ؟ انتهى .

وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعاً كثيرة ، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء ، ففي بعض «فتاوي ابن تيمية » ، وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة ، والأبدال الأربعين والنجباء الثلثمائة ، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال ، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن فيهم يعني أهل الشام الأبدال أربعين رجلاً كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلاً " ولا توجد أيضاً في كلام السلف انتهى ، وأنا أقول :

وما أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد

{ وَقَالَ الله } تعالى { إِنّى مَعَكُمْ } بالتوفيق والإعانة { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة } وتحليتم بالعبادات البدنية { وَلَقَدْ أَخَذَ } وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم { وَلَقَدْ أَخَذَ } جميعهم من العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة ، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه ، بل ومن الأفعال والصفات جميعها ، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا { لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ } التي هي الحجب والموانع لكم { سيئاتكم وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات } مما عندي { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد ، وتجليات الأفعال والصفات والذات { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك } العهد وبعث النقباء منكم

{ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل } [ المائدة : 12 ] وهلك مع الهالكين