روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَشۡكُرُونَ} (58)

{ والبلد الطيب } أي الأرض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة ، واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار ، ومن قبيل ذلك إطلاقه على مكة المكرمة { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ } بمشيئته وتيسيره ، وهو في موضع الحال ، والمراد بذلك أن يكون حسناً وافياً غزير النفع لكونه واقعاً في مقابلة قوله : { والذى خَبُثَ } من البلاد كالسبخة والحرة { لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا } أي قليلاً لا خير فيه ، ومن ذلك قوله

: لا تنجز الوعد إن وعدت وإن *** أعطيت أعطيت تافهاً نكداً

ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف ، وأصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف إليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعاً مستتراً ، وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث ، والتعبير أولاً بالطيب وثانياً بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض . وقرىء { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } ببناء { يَخْرُجُ } لما لم يسم فاعله ورفع { نَبَاتُ } على النيابة عن الفاعل ، و { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } ببناء { يَخْرُجُ } للفاعل من باب الإخراج ، ونصب { نَبَاتُهُ } على المفعولية ، والفاعل ضمير البلد ، وقيل ضمير الله تعالى أو الماء ، وكذا قرىء في { يَخْرُجُ } المنفي ، ونصب { نَكِدًا } حينئذٍ على المفعولية . وقرأ أبو جعفر { نَكِدًا } بفتحتين على زنة المصدر ، وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكد أو خروجاً نكدا . وقرأ { نَكِدًا } بالإسكان للتخفيف كنزه في قوله

: فقال لي قول ذي رأي ومقدرة *** مجرب عاقل نزه عن الريب

{ كذلك } مثل ذلك التصريف البديع { نُصَرّفُ الايات } أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها . وأصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح .

{ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك بالتفكر فيها والاعتبار بها ، وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك . وقال الطيبي : ذكر { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } بعد { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 57 ] من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر ، وهذا كما قال غير واحد مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك . أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى : { والبلد الطيب } الخ مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين يقول : هو طيب وعمله طيب والذي خبث الخ مثل للكافر يقول : هو خبيث وعمله خبيث . وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث .

أخرج أحمد والشيخان والنسائي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به " وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في «الكشف » ، ولقربه من الاعتراض جىء بالواو في قوله سبحانه وتعالى : { والبلد الطيب } وفيه إشارة إلى معنى ما ورد في «صحيح مسلم » عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عن الله عز وجل : " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " . وفي «صحيح البخاري » عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه " ووجه الإشارة قد مرت الإشارة إليه .

ومن باب الإشارة :{ والبلد الطيب } وهو ما طاب استعداده { يخرج نباته بإذن ربه } حسناً غزيراً نفعه { والذي خبث } وهو ما ساء استعداده { لا يخرج إلا نكداً } [ الأعراف : 58 ] لا خير فيه